اعتدنا بين الفينة والاخرى، ان يتعرض ​لبنان​ لحملة من الصحف السعودية تطاله وشعبه والمسؤولين السياسيين فيه... وقد بلغت هذه الحملة اوجها في فترة الفراغ الرئاسي حين لم "يمتثل" لبنان للرغبة السعودية بأن "يكسر الجرّة" مع ​ايران​، في وقت كان العالم اجمع يحتضن طهران ويتوصل معها الى اتفاق نووي قلب مجريات الاحداث، وترك السعودية في "عزلة" سياسية قلما شهدت مثلها.

وبعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، شاء ان تقوده اول زيارة خارجية له الى الرياض التي حلّ فيها ضيفاً وطمأن ملكها الى ان لبنان ليس منصة لمحاربتها او غيرها من الدول، وانما همّه النهوض وعدم اغلاق اي فسحة للتقارب بيبن الدول العربية من جهة، وبينها والدول الاخرى من جهة ثانية. عندها، سمع الرئيس عون من الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز كلاماً ايجابياً وصدرت الصحف السعودية لاكالة المديح والتبجيل بالملك وبما قاله لرئيس الجمهورية، دون ان ينسى الصحافيون السعوديون الاشادة بالرئيس اللبناني وبأفكاره وطروحاته.

اليوم، طالعتنا الصحف السعودية بهجوم منسّق على لبنان ورئيسه، ما يعني اننا اصبحنا امام مشكلة حقيقية بين بلدين عربيين، علاقتهما غير سليمة وغير متّزنة، وقائمة على ما يبدو على ركيزة اساسية بالنسبة الى السعودية وهي: مهاجمة ايران. ففي كل مرة لا يهاجم فيها لبنان الجمهورية الايرانية وفق رغبة الرياض، تشنّ الحملات ويصبح لبنان بمثابة ايران صغيرة في الشرق الاوسط، وفوق كل ذلك يبدأ الهجوم على المسؤولين فيه والتجريح الشخصي تحت ستار "السيطرة الايرانية عليهم". بالفعل، بات اللبنانيون حائرون، فهل يجب تصديق الصحافيين السعوديين الذين يعبّئون اقلامهم بحبر الحقد والتجريح، ام يصدقون الملك والمسؤولين الذين حتى الامس القريب، كانوا يشيدون بالمسؤولين اللبنانيين انفسهم الذين وقعوا ضحية الاقلام السعودية؟. ليس الامر بالسهل، ولا يمكن للصحافة السعودية ان تعتمد مبدأ الرئيس الاميركي السابق جورج بوش الابن (وهو المبدأ الذي اشتكت منه السعودية وغيرها من الدول) والقائم على ان: "من ليس معي فهو عليّ".

الفارق بين المرة الاولى والثانية، هو انه في السابق كانت السعودية تحارب على جبهة سياسية ودبلوماسية وعسكريّة خاسرة، اما اليوم فهي تعتمد على الزخم المعنوي والدبلوماسي والسياسي الذي امّنته لها زيارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب اليها والكلام الذي قاله عن السعودية وحزب الله، وبالتالي فصحافيو المملكة اليوم اكثر راحة في شنّ هجومهم من المرة التي سبقت. اما طريقة تعاطي لبنان مع المسألة فستختلف بشكل كبير، لانه في المرة الاولى عمد رئيس الحكومة في حينه الى "استرضاء" المملكة وحكامها، اما اليوم فلن يعمد الرئيس عون الى القيام بالمثل، وهو سيستند الى ما تم اقراره في مجلس الوزراء لجهة ان لبنان يعبّر عن قراره بنفسه وليس ملزماً تبنّي اي قرار او موقف خارجي حتى ولو اتى من دولة عربية. اي بمعنى آخر، فإن لبنان لن يكون منصّة للسعودية لمهاجمة ايران، كما انه في الوقت نفسه رفض ان يتبنى موقف "حزب الله" وامينه العام في مهاجمة السعوديّة، وهذا هو الموقف الرسمي الذي لا لبس فيه ولم تقدر ان تتفهمه الصحافة السعوديّة على ما يبدو.

لن يكون هناك "اعتذار" للسعودية ولا استرضاء لها، ويجب ان يفهم الجميع ان العلاقات بين الدول لا تقوم على الغموض والضبابية او المزاجيّة، فكما ان المملكة تتخذ القرار الذي يناسبها ومصالحها الخارجية والداخلية، كذلك لبنان قادر على اتخاذ قراراته وفق مصالحه الخارجية والداخليّة دون ارتهان او تبعية لاحد لان الوقوف الى جانب دولة ضدّ اخرى، من شأنه ان ينعكس على الوضع اللبناني برمّته، وحينها لن يجد لا دولة صديقة او شقيق بمقدورها ان تحيده عن مصيره المشؤوم.