لم تكنْ الجريمة التي ارتكبتها القوات الأمريكية بقصفها وحدات من الجيش العربي السوري المتقدمة لتحرير منفذ التنف مع العراق، وقبلها في جبل الكردة بدير الزور، ومن ثمّ مطار الشعيرات، لم تكنْ عشوائية أو وليدة الصدفة، حالها حال جرائم الحرب التي ترتكبها الطائرات الأمريكية ضدّ الشعب السوري والبنية التحتية السورية، والتي هي محسوبة ومدروسة في إطار التاريخ والجغرافيا والاستراتيجيات المعدّة لتقسيم المنطقة. إذ بعيداً عن التبريرات الواهية الصادرة عن الإدارة الأميركية فإن حقيقة الأمر هي أن التواصل السوري – العراقي كان ولا يزال ممنوعاً منذ استقلال البلدين في أواسط القرن الماضي منذ قيام حلف بغداد عام 1955، والذي ضمّ بريطانيا والعراق وتركيا وإيران وباكستان لاحتواء المدّ القومي العربي من جهة، ومقارعة ما كانوا يسمّونه آنذاك النفوذ السوفياتي في المنطقة من جهة أخرى، وهو اليوم ما يسمونه النفوذ الإيراني. ومع أنّ هذا الحلف قد سقط عام 1958، إلا أنّ الرئيس الأمريكي، دوايت أيزنهاور، أعلن مبادئ ضمن رسالة خاصة أرسلها إلى الكونغرس، أصبحت تُعرف بعد ذلك «بمبدأ أيزنهاور»، وحسب هذا المبدأ، فإن بمقدور أيّ بلد أن يطلب المساعدة الاقتصادية الأمريكية أو العون من القوات المسلحة الأمريكية إذا ما تعرّض ذلك البلد للتهديد من دولة أخرى. وهذا ما فعله كميل شمعون عام 1958، حين ثار الوطنيون في لبنان مطالبين بانتهاج الخطّ القوميّ العربي، وضدّ محاولة الرئيس اللبناني كميل شمعون تزوير الانتخابات. استجاب أيزنهاور لطلب شمعون، وأرسل المارينز إلى بيروت للحفاظ على «حياد» سياسة لبنان الخارجية، رغم «تعاطفه» مع القضايا العربية.

وبعد أن وقّع السادات اتفاق سيناء 2، ومن ثمّ معاهدة كامب دافيد، وبعد زيارته إلى القدس عام 1977، حاول الرئيس حافظ الأسد التعويض عن خسارة العرب لمصر بإنشاء الجبهة الشامية، حيث اتجه إلى العراق والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، إلا أنّ ما كشف النقاب عنه إلى حدّ اليوم من وثائق السي أي إيه السرّية، يوضح أنّ التعليمات قد صدرت في حينه إلى صدام حسين بحشد القوات العسكرية على الحدود السورية، وتهديد سورية، ونشأت العلاقة الوثيقة الغريبة بين صدام حسين وياسر عرفات واللاجئين في الثمانينات ضدّ التعاون أو حتى التنسيق مع سورية. ورغم زيارة الرئيس حافظ الأسد إلى الأردن، فإنّ الملك حسين لم يتمكن يوماً من الخروج عن الأوامر الغربية والانخراط في أيّ عمل عربي مشترك. واليوم، ورغم اختلاف الأسباب والذرائع، فإنّ كل ما تقوم به الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في سورية هدفه استمرار إضعاف الدولة السورية، وقطع أوصالها مع جاراتها من الدول العربية، وضدّ التواجد الروسي الداعم لوحدة سورية. فبعد سنين من التدخل الداعم للإرهاب، وتسليح عصاباته، اعترفت بريطانيا وفرنسا مؤخراً بوجود قوات لهما على الأراضي السورية، وها هي الولايات المتحدة تطبّق مبدأ أيزنهاور، وتدّعي دعم الأكراد تارة، ودعم الديمقراطية تارةً أخرى، ولكنّ الهدف هو استنزاف كلّ بلد عربي على حدة، بحيث لا تقوم للأمة العربية قائمة، ولا تتمكن من تشكيل كتلة بشرية جغرافية وتاريخية وحضارية في وجه المشروع الصهيوني والنفوذ الغربي في المنطقة. إذ منذ أن نكص الحلفاء بوعودهم التي قطعوها قبل انخراط العرب معهم في المعركة ضدّ السلطة العثمانية وحتى اليوم وهم ينفذون العدوان تلوَ الآخر على الدول العربية، ويقدمون في كلّ مرة تبريراتٍ واهية هدفها الأساس هو حرمان العرب من وحدتهم التي يدعمها التاريخ والجغرافيا التي تشكّل أهمّ أسباب القوّة لهم والتي إذا ما تحققت في أيّ مرحلة من المراحل فإنّ وزن العرب في الميزان الإقليمي والدولي سيشهد ثقلاً لا مثيل له، وسيكون في صالح حلفائهم وأصدقائهم، وضدّ أعدائهم والطامعين بهم.

لقد حاول الرئيس حافظ الأسد، مع كلّ العرب، أن يخلق أيّة صيغة من صيغ التضامن العربي، وأبدى استعداده لتقديم أية تنازلات مطلوبة، وخاصة مع العراق؛ إذ وخلال الحرب العراقية – الإيرانية، قدّم عرضاً للعراق بإنشاء اتحاد سوري وعراقي، وأن يكون هو نائب الرئيس، وأن تكون الرئاسة للعراق كمخرج للتفاوض مع الإيرانيين وإنهاء الحرب، إلا أنّ كلّ عروضه قد قوبلت بالرفض، وبدلاً من ذلك قام صدّام بدعم وتسليح عصابات الإخوان المسلمين الإرهابية المرتبطة بإسرائيل والمخابرات الغربية، الذين ضربوا الداخل السوري بإرهاب السيارات المفخخة والاغتيال والتفجيرات الطائفية على مدى سنوات في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات. والمتمعّن في تاريخ القرن العشرين وما يجري اليوم في بلادنا، يوقن أنّ المستهدف منذ الحرب العالمية الأولى، وحتى اليوم، ومن قبل الأطراف الغربية ذاتها: «بريطانيا، وفرنسا والولايات المتحدة» هو الحضارة العربية، والهوية العربية، ووحدة الجغرافيا بين العرب. ولكنّ اللافت هو أنّ قلّة قليلة من العرب قد أظهرت وعياً بهذه الاستراتيجية، ناهيك عن وضع استراتيجيات تضمن للعرب مصالحهم وحقوقهم. من هنا فإنّ خطة الجيش العربي السوري لإعطاء الأولوية للنفاذ إلى معبر التنف، وإفساح المجال للتواصل الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي مع العراق، تعتبر تقويضاً للخطط الغربية القديمة الجديدة لمنع التواصل بين هذين البلدين الشقيقين والجارين. وليس استبدال إسرائيل بإيران كعدوٍّ للعرب واختلاق خطر التشيّع سوى آخر الذرائع المستحدثة لاستمرار الهيمنة الغربية على أرضنا وشعبنا وثرواتنا مستخدمين الإرهاب والمال الوهابي هذه المرة بكثافة، فهذه الأكاذيب التي يلفقونها حلقة جديدة في سلسلة الأكاذيب التي برهنت الأحداث دوماً أنّ هدفها الأساس على مدى قرون هو تفتيت التاريخ والجغرافيا العربية، وضرب وحدة هذا التاريخ والجغرافيا، ومنع أسباب القوة الحقيقية عن العرب كلّهم جميعاً.