بدأت الغيوم الملبّدة فوق اجواء العلاقة بين القارة الاوروبية والولايات المتحدة الاميركية منذ الحملة الانتخابية للرئيس الحالي ​دونالد ترامب​، تتكاثر، وباتت اليوم على شفير ان تتسبب بأمطار غزيرة وعواصف قد تعلن الطلاق بين الاثنين. الامر ليس تحليلاً بقدر ما هو معطيات واقعية وتصاريح اوروبية، اخذت تتصاعد، وتنادي بوجوب الاعتماد على النفس والانفصال شيئاً فشيئاً عن "الراعي" الاميركي الذي لطالما شكّل حاضنة للاوروبيين في اكثر من بلد وفي الكثير من المناسبات.

لعل الصوت الاعلى في هذا السياق اتى من المستشارة الالمانية انجيلا ميركل التي تركت قليلاً للخيال لتوضيح فكرة "وجوب اعتماد اوروبا على نفسها". من المنصف القول ان العلاقات الاميركية-الاوروبية لم تمرّ بهذه الفترة من البرودة منذ ما قبل الحرب العالمية، وان الاوروبيين اليوم باتوا غيرهم عن تلك الحقبة، واصبحوا اكثر استقلالية، حتى انهم ارتأوا حلّ بعض المشاكل الداخلية بنفسهم، على غرار مشكلة روسيا واوكرانيا واتفاق وقف اطلاق النار الذي ابصر النور وفق وساطة اوروبية (المانية-فرنسية تحديداً).

ولكن للوصول الى حد الانفصال، مسيرة طويلة قد تأخذ وقتاً غير قصير لتتحقق. فبالنسبة الى اميركا، هناك الكثير من الامور التي تجد نفسها متعلقة فيها ب​أوروبا​ على الصعد التجارية والامنية والعسكرية والاقتصادية... ولن يكون من السهل ان "تنفض" واشنطن يديها من الاوروبيين بهذه السرعة لان تداعيات هذا الامر كارثية في النواحي التي ذكرناها، غير ان على الادارة الاميركية الجديدة اعادة النظر في بعض القرارات وان تحث ترامب على التخفيف من حدته في التعاطي مع الاوروبيين بنظرة "فوقية" وكأنهم مجرد اتباع، لان من شأن ذلك ان يدفع الاوروبيين الى الابتعاد اكثر فأكثر عن اميركا ليكون البديل روسيا والصين. فالدب الروسي جاهز للتدخل وجذب الدول الاوروبية بهدف كسر الجليد القائم من جهة، والارتياح من تهديد الدرع الصاروخي من جهة ثانية، وتثبيت ركائزه كقوة مقابلة لاميركا في العالم من جهة ثالثة، فيما ستستقبل الصين بصدر رحب امكان تعزيز وتوثيق وتوسيع التقارب مع القارة العجوز وبالتحديد في الشق الاقتصادي، ما يجعلها قوة اقتصادية احادية في العالم.

في المقابل، لن تعيش اوروبا عصر نهضة جديد، وقرار التخلي عن الرعاية الاميركية له ثمنه، وبالاخص اذا ما اخذنا في الاعتبار ما تعاني منه هذه القارة على صعيد المشاكل الداخلية (انفصال بريطانيا وتهديد الاتحاد الاوروبي، المشاكل السياسية والامنية مع روسيا، عدم توحيد الرؤية بالنسبة الى اوضاع الشرق الاوسط...)، ناهيك عن المشاكل التي ستترتب جراء تخلي اميركا عن حلف شمال الاطلسي مع ما يعنيه ذلك من نقص حاد في القوة العسكرية التي كانت توفرها الولايات المتحدة وايضاً لجهة العتاد والآليات والاجهزة المتطورة، لكنه في المقابل قد يحد من التواجد الاميركي في دول العالم حيث لواشنطن موطىء قدم تقريباً في كل الكرة الارضية بفضل تواجدها في اوروبا.

المشكلة ان التغييرات السياسية طالت اوروبا واميركا في الوقت نفسه، ولم يعتد الزعماء على بعضهم بعد من جهة، ولا اعتادوا على طريقة تعاملهم مع ترامب من جهة اخرى، ولكن الثابت ان معركة "عض الاصابع" قد بدأت وعلى من يتألم اكثر ان يصرخ اولاً. هل هو الطلاق بين الاثنين؟ من المبكر الحديث عن هذا الامر، ولكن النصيحة التي يتلقاها الجميع في هذه الفترة تقضي بوجوب اعادة النظر في كل القرارات الصادرة والتمعن بدقة بتلك التي ستصدر لان تداعياتها قد تزيد الشرخ والهوة الظاهرة بين اوروبا واميركا، فيما مصلحة الاثنين تكمن في تقاربهما وليس في تباعدهما. فمن الذي سيعيد بناء جسر الثقة المهتز بينهما؟ وكم سيستغرق ذلك من وقت وجهد، وهل ستقبل اميركا فعلاً في اتباع ترامب سياسة عزل النفس عن العالم علماً ان ذلك يحتاج اساساً الى اتفاق داخلي على شخصه غير متوافر حالياً؟