لولا تصريح وزير الداخلية ​نهاد المشنوق​ عن "دول صغيرة ترتكب أخطاء كبيرة تتسبب في مشاكل كثيرة"، والذي قرأ المراقبون بين سطوره رسالة واضحة ولا تحتمل اللبس لقطر، وإن حاول بعد ذلك التقليل من وقعها، لكان بالإمكان القول أنّ لبنان الرسميّ تجاهل كليًا الأزمة الخليجية الناشئة بين كلّ من السعودية والبحرين والإمارات من جهة وقطر من جهة ثانية.

ولا يعبّر هذا "التجاهل" سوى عن رغبة المسؤولين اللبنانيين بـ"النأي بالنفس" عن الأزمة المستجدّة، لعلّ ذلك يقي لبنان تداعياتها المحتملة، بما يمنع تكرار تجربة "معاقبة" لبنان على "حياده"، خصوصًا من قبل دول الخليج التي لم تبلع بعد "تنصّل" لبنان من "إعلان الرياض" الأخير.

لا إجماع عربياً

بدايةً، لا شكّ أنّ اللبنانيين يشعرون بالإحراج والحذر كلّما لاحت في الأفق بوادر أزمة في المحيط القريب أو البعيد، أياً كان حجمها، باعتبار أنّ التجارب أثبتت أنّ نسبة تأثّرهم بهذه الأزمات ليست ببسيطة، نظراً للتركيبة اللبنانية الهشّة، والانقسام العمودي بين اللبنانيين على مختلف المستويات، وانخراطهم المباشر في لعبة الأمم هنا أو هناك.

ولعلّ ما يفاقم من الحساسيّة اللبنانيّة، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بدول الخليج، وعلى رأسها السعودية، الشعور بأنّ لبنان لا يزال حتى اليوم يدفع ثمن مواقف اتخذها بما لا ينسجم مع الطموحات الخليجية، وهو ما حصل على سبيل المثال في القمّة العربيّة العام الماضي، ونتج عنه إعلان السعودية تجميد الهبة السعودية للجيش اللبناني، مع سلسلة من الإجراءات الأخرى، من بينها تقليص التمثيل الدبلوماسي إلى أدنى درجاته.

وعلى الرغم من أنّ صفحةً جديدةً فُتحت بين لبنان والسعودية مع انطلاقة العهد الجديد وانتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية، إلا أنّ الأمور عادت وتراجعت في الأسابيع الماضية، بعد مواقف للرئيس اعتُبِرت "منحازة" لـ"حزب الله"، قبل أن تتفاقم من جديد على خلفية "تنصّل" وزير الخارجية جبران باسيل من "إعلان الرياض"، الذي تلا قمّة الرياض التي جمعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعددٍ من الرؤساء والقادة العرب.

وإذا كان اللبنانيون يخشون، انطلاقاً من تجاربهم السابقة، أن يتكرّر مشهد "معاقبتهم" على عدم اتخاذهم لموقفٍ واضحٍ وحازمٍ، إلا أنّ الواضح أنّ الأمر مختلفٌ هذه المرّة رأساً على عقب، باعتبار أنّ المشكلة مع لبنان في السابق كانت تتمحور على أنّه يقف ضدّ ما يُسمّى بـ"الإجماع العربي"، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بإيران، التي يتّهمها العرب بالسعي للهيمنة على المنطقة، بشكلٍ أو بآخر.

وبطبيعة الحال، لا يسري هذا الأمر اليوم على الأزمة الخليجية، طالما أنّها أزمة بين دولٍ كلّها عربيّة، سواء لجهة السعودية والبحرين والإمارات أو لجهة قطر، وبالتالي، ليس بالإمكان الحديث عن إجماعٍ عربي على هذا الصعيد، أياً كانت الاتهامات التي وُجّهت لدولة قطر بدعم الإرهاب وما شابه ذلك، وحتى لو كانت السعودية مثلاً تمنّي النفس بموقفٍ لبنانيٍ مؤازرٍ لها، كونه عانى ولا يزال يعاني الأمرّين من الإرهاب.

لبنان على الحياد...

عمومًا، قد تكون من المرّات النادرة التي يلتزم فيها اللبنانيون بالصمت شبه المُطبَق إزاء أزمةٍ تعصف بالمحيط، كما هو حاصلٌ اليوم على خطّ الأزمة الخليجيّة الناشبة بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وقطر من جهة ثانية. ولفت في هذا السياق أنّ الفريق المحسوب على السعودية في لبنان، وعلى رأسه "تيار المستقبل"، كما الفريق المعادي لها، وعلى رأسه "حزب الله"، وقفا "على الحياد"، أقلّه حتى الساعة، الأمر الذي عكس في مكانٍ ما وجود "اتفاقٍ ضمني" على إبقاء لبنان بمنأى عن الأزمة الخليجية، تحصيناً له قدر الإمكان، وطالما أنّ الأمور لا تزال محدودة جغرافياً وسياسياً، ولم تدقّ بعد أبواب الجامعة العربية بالحدّ الأدنى.

وعلى العكس من ذلك، تحدّثت العديد من التسريبات خلال الأسبوع الماضي عن أنّ رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ يسعى، خلف الكواليس، لـ"ترطيب الأجواء" بين السعودية وقطر، في محاولةٍ لرأب الصدع العربي بالتي هي أحسن، وهو يلاقي الوساطة الكويتية التي انطلقت لتقريب وجهات النظر السعودية القطرية، خصوصًا أنّه يدرك أنّ توسّع فتيل الأزمة سيجرّ لبنان بطبيعة الحال إلى قلبها، ولن يكون النأي بالنفس مجديًا في منع رياحها من أن تصل إليه، وتترك تأثيراتها التي قد لا تكون محمودة.

وعلى الرغم من أنّ قياديين في "تيار المستقبل" لا يزالون يخشون أن يدخل "حزب الله" على خطّ الأزمة، في سياق المواجهة مع السعودية، الأمر الذي قد يجده السعوديون "ذريعة" لتحميل لبنان مسؤوليات هو بغنى عنها، فإنّ هناك تقاطعاً لبنانياً عاماً على اعتبار أنّ لا مصلحة للبنان على الإطلاق بالدخول على خطّ الأزمة، ليس فقط لعدم تعكير العلاقة مع السعودية التي لا تزال متأرجحة أصلاً، ولا للحفاظ على العلاقة الجيّدة مع قطر، التي لا ينكر أحدٌ في لبنان أنّها كانت إيجابيّة في أكثر من محطة، وخصوصًا في أعقاب حرب تموز 2006، وإن تراجع زخمها في محطّات كثيرة أخرى.

وتشمل الاعتبارات التي تغلّب منطق النأي بالنفس والحياد على ما عداه الوضع اللبناني المهتزّ بما يكفي أصلاً، والذي لا يبدو قابلاً لأيّ "اهتزازٍ جديد"، خصوصًا في ضوء أزمة قانون الانتخاب، التي دخلت "ربع الساعة الأخير"، من دون أن يتّضح مسارها النهائي بشكلٍ واضحٍ لغاية الساعة، ولا سيما أنّ سيناريوهات حسّاسة ودقيقة لا تزال مفتوحة، ومن بينها سيناريو "المجهول" الذي تقود إليه كلّ الخيارات، باستثناء إقرار قانون انتخابي جديد، بدأت المهل تضيق أمامه إلى أقصى الحدود.

الواقع المُرّ...

نظريًا، وفي المنطق، كان يجب على لبنان أن يتحرّك هو، رسميًا وشعبيًا، لمعالجة الخلاف الناشئ بين دولتين، يرتبط بهما بعلاقة صداقة بشكلٍ أو بآخر، هما السعودية وقطر، تمامًا كما كان يجب أن يتحرّك لمعالجة الكثير من الخلافات، التي وقف فيها في الوسط.

ولكن، وبعيدًا عن النظريات، من الواضح أنّ لعب لبنان لمثل هذا الدور لم يعد مطروحًا للنقاش، لأنّ لبنان فقد دوره الحيويّ والفاعل منذ فترة طويلة، وبات أقصى ما يتمنّاه هو أن لا ينزعج منه أحد إذا لم يفعل شيئاً، وفي الأمر أكثر من عبرة لمن أراد أن يعتبر!.