– شكّل إسقاط الأميركيين للطائرة السورية في منطقة الرقة فرصة لتظهير حرب الإرادات بين واشنطن وكل من موسكو وطهران حول سورية، وتحديد صاحب اليد العليا فيها، بعدما مُنيت واشنطن بهزائم متلاحقة في محاولة إثبات حضورها كجهة قادرة على رسم الخطوط الحمراء، وفرض قواعد المعادلات والتوازنات، والتحكم برسم ما يُسمّى بقواعد الاشتباك. وكانت أولى المحاولات مع الكلام العالي السقوف للرئيس الأميركي دونالد ترامب حول سورية بعد حادثة خان شيخون التي يجزم الرئيس فلاديمير بوتين أنها إخراج هوليودي سيئ قامت به واشنطن لتنفيذ ضربة معدّة مسبقاً لمطار الشعيرات. ولم يلبث أن ظهر التردد والارتباك في تنفيذ الضربة، فأبلغ الروس بها قبل ساعات، ومضت بلا أثر عسكري رغم الأوهام الأميركية عن ذعر سيُصاب به الجيش السوري وانهيار في معنوياته وتغير في توازنات حربه مع الجماعات المسلحة، ودفع لمئات آلاف السوريين للنزوح عن بلدهم. وشيء من كل هذا لم يحدث، بل إن الحد الأدنى الذي افترضه الأميركيون تحصيل حاصل باختيارهم مطار الشعيرات، عبر رسم خط أحمر للجيش السوري وحلفائه لوقف الحرب لاسترداد ما سيطرت عليه الجماعات المسلحة في أطراف دمشق وريف حماة في غزوة محمد بن سلمان بعد زيارته لواشنطن، لم يحدث، فتهاوت هذه المناطق بيد الجيش السوري تباعاً خلال أسبوعين. والخط الأحمر الافتراضي لمنع الجيش السوري من التقدم في البادية لم يبد له أثر مع اندفاع الجيش السوري من تدمر إلى ما بعد تدمر وما بعد ما بعد تدمر.

– في المرة الثانية بدأ الأميركيون بتنظيم قوات درّبوها وسلّحوها في الأردن وزامنوا تحريكها مع مناورات أسموها بالأسد المتأهب للحديث عن عملية الجبهة الجنوبية. وبدأ الملك الأردني يتحدث عن الأمن الوقائي ملمّحاً لمشاركة جيشه وطيرانه داخل الأراضي والأجواء السورية، وتلتها وتزامنت معها المرة الثالثة بالغارات الأميركية في البادية لمنع الجيش السوري من بلوغ الحدود السورية العراقية. وفي هاتين المرّتين كان موقف روسيا وإيران حازماً بالموقف المعلن والخطوات الميدانية إلى جانب سورية وحزب الله، بعد رفض رشوة حاول عادل الجبير تقديمها لموسكو بإبداء الاستعداد للسير بدعوة وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون لقبول بقاء الرئيس السوري مقابل خروج حزب الله من سورية، فكان الردّ الروسي قاسياً، بأن حزب الله في سورية شرعي تماماً كالقوات الجوية الروسية. وشهد الميدان حشوداً للجيش السوري نحو درعا والبادية ومعه وحدات النخبة من حزب الله والحرس الثوري الإيراني. وفي السماء نشط الطيران الروسي في مناطق لم يشارك في قصفها من قبل مراعاة لحسابات العلاقات بالأردن و«إسرائيل»، وتم وضع كل شيء جانباً لضمان انتصار الجيش السوري والحلفاء بالقول لواشنطن إن الخط الأحمر في جنوب سورية ساقط والخط الأحمر على الحدود مع العراق ساقط مثله، وقد بات ذلك اليوم محسوماً بالوقائع، وبات فوق قدرة الأميركيين العودة بالأمور إلى الوراء.

– هذه المرة تذاكى الأميركيون بمحاولة القول إن الحرب على داعش في الرقة هي اختصاصهم الحصري، وقد أوكلوه في الميدان للجماعات الكردية، وأنهم مستعدون لفرض ذلك بكل الاحتمالات، وقد خسروا حليفاً كتركيا كي لا يتسامحوا مع هذا المبدأ. والقضية ككل قضايا أميركا المبدأ فيها هو المصلحة. والمصلحة الأميركية في البقاء في سورية ترتبط عضوياً بشرطين، هما قضية يجب ألا تنتهي وهي الحرب على الإرهاب عبر حرب لا تكسر عظام داعش يقودها الأميركيون بدحرجتها من منطقة إلى منطقة، وبغطاء يمنح المشروعية له هوية تكوينية في المجتمع السوري، وهنا الخيار معلوم وهو الأكراد، لكن سورية وحلفاءها نجحوا بتعطيل الخطة الأميركية ومنعوا الحرب المتدحرجة لحساب حرب كسر العظام مع داعش، ورسموا الخارطة لإقفال الممرات الآمنة التي رتبها الأميركيون لداعش نحو البادية، وعملوا لاجتذاب داعش مستفيدين من الرغبة الأميركية بالتدحرج لتكون معركة كسر العظم في دير الزور، وزنّروا دير الزور من الجنوب والغرب والشرق والشمال لتكون ساحة الحرب بين أيدي الجيش السوري والحلفاء. ولما رأى الأميركيون الأمور تفلت من بين أيديهم أرادوا رفع التوتر بإسقاط الطائرة لرد الأمور إلى حضنهم وسيطرتهم وإدارتهم وأجندتهم.

– جاء الجواب المثلّث، فالجيش السوري والحلفاء يواصلون خطتهم نحو التقرّب من دير الزور وتعزيز الوجود فيها والتقدم في البادية والحدود مع العراق والتنسيق مع الجانب العراقي المقابل سواء الجيش العراقي أو الحشد الشعبي، ومواصلة التقدم في ريف الرقة وعلى مجرى نهر الفرات، بينما قام الإيرانيون بتوجيه رسالة صاروخية لم يكن عبثاً اختيار دير الزور هدفاً لها، وقام الروس بإعلان اعتبار كل جسم طائر في مناطق عملياتهم هدفاً لصواريخهم بعدما ألغوا العمل بتفاهم منع التصادم مع الأميركيين في الأجواء السورية، فكيف تصرّفت واشنطن؟

– ردّت واشنطن بالطلب الفوري إلى موسكو العودة للتفاهم واعتبار إسقاط الطائرة حادثاً ناجماً عن ضعف التنسيق في بقعة جغرافية باتت القوى فيها تعمل عن قرب، فردّ الروس بأن لذلك أحد طريقين، إما الاكتفاء بتفاهم لمنع التصادم. وفي هذه الحالة لن يشمل الطيران الروسي وحده بل الطيران السوري معه، أو الذهاب للتنسيق في الحرب على داعش براً وجواً. وفي هذه الحالة يجب أن يشمل التنسيق الجيش السوري أيضاً، ولا تزال واشنطن مرتبكة محاولة التأقلم مع أقل الخيارات كلفة، بعدما عدّلت موسكو شروط العودة للتفاهم، فلمن تكون اليد العليا؟ ومن يكون المستعدّ للذهاب إلى النهاية في إثبات تفوق الإرادة؟

– تعيش واشنطن حالة تشبه تلك التي عاشتها يوم جاءت بأساطيلها في عهد الرئيس باراك أوباما، واكتشفت أنها مع الموقفين الروسي والإيراني وجهوزية سورية والمقاومة، تواجه خيار الحرب الشاملة، فتراجعت وارتضت بحفظ ماء الوجه بالحل السياسي للسلاح السوري الكيميائي، مع فارق أنها هذه المرة لن تحصل على تعويض لتتراجع، فعليها تجرّع المعادلات الجديدة التي ترسمها الدماء، وتثبتها الصواريخ العابرة الروسية والإيرانية، أو الذهاب للحرب الشاملة إن كانت مستعدّة وقد فات أوان اختبار النيات، والعبرة أن التذاكي لا يحلّ مكان الذكاء والاستقواء لا يحلّ مكان القوة، والحرب النفسية لا تحلّ مكان الحرب الفعلية، وليست الثكلى كالمستأجرة، وليس صاحب الأرض كالمحتل، ولا صاحب الحق كالتاجر.