بين دعوة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لعقد لقاء لرؤساء الأحزاب السياسيّة المُمثلّة في الحكومة، وقيام بعض الناشطين في "​الحراك المدني​" برشق مواكب النوّاب بالبيض، فارق كبير وأسلوب مُغاير تمامًا في التعامل مع الأمور والمشاكل وفي النظرة إلى الحلول. وفي هذا السياق، يُمكن تسجيل ما يلي:

بالنسبة إلى دعوة الرئيس عون إلى عقد لقاء في بعبدا، فهي جاءت إنطلاقًا من واقعيّة سياسيّة كاملة تتقاطع مع رغبة بعدم هدر المزيد من الوقت. فرئيس الجُمهورية الذي إنقضت ثمانية أشهر من عهده بين العمل على تذليل العقبات لولادة الحُكومة ثم العمل على تذليل العقبات لولادة ​قانون الإنتخابات​ النيابيّة الجديد، يُدرك تمامًا أنّ الحكومة الحالية باقية إلى حين إجراء الإنتخابات في أيّار 2018، وبطبيعة الحال، المجلس الحالي المُمدّد له باق بدوره حتى هذا التاريخ. وعلى الرغم من أنّ الرئيس يرغب - كما كثير من اللبنانيّين بإحداث تغيير كبير على مُستوى الطبقة السياسيّة الحاكمة، إلا أنّه لا يُريد إنقضاء ثلث عهده تقريبًا، أي منذ إنتخابه رئيسًا في تشرين الأوّل 2016 إلى الولادة المُنتظرة للمجلس النيابي المُقبل في أيّار 2018، ثم إلى تشكيل الحكومة الجديدة بعد أسابيع أو أشهر من هذا التاريخ، من دون تحقيق إنجازات تُذكر. ومن هذا المُنطلق، سارع الرئيس إلى دعوة العديد من القيادات الأساسيّة إلى قصر بعبدا، للتفاهم على آليّة عمل تُسهّل على السُلطة التنفيذيّة الحكم بمُساعدة من السلطة التشريعيّة، علمًا أنّ القيادات المدعوة إلى لقاء بعبدا موجودة بفعاليّة في الحكومة وهي مُمثّلة بكتل نيابية كبيرة في المجلس أيضًا. وقد إستبعدت من الدعوة الرئاسية كتل وشخصيات غير مُمثلّة في الحكومة أو محسوبة على المُعارضة، لأنّ الهدف من إجتماع بعبدا هو إعادة إطلاق عجلة الدولة، وتسيير شؤون الناس الحياتيّة والمعيشيّة والإقتصاديّة من دون عوائق ولا إعتراضات. وعلى الرغم من إمكان تناول بعض القضايا السياسيّة الخلافيّة في الإجتماع، فإنّ حرص الرئاسة واضح في تمييز طبيعة هذا اللقاء عن "طاولة الحوار" التي كانت عقدت في السابق سلسلة من الجلسات في "عين التينة" برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه برّي.

وبالنسبة إلى ما قام به عدد من ناشطي "المُجتمع المدني" بالتزامن مع إنعقاد جلسة إقرار قانون الإنتخاب الجديد الأسبوع الماضي، لجهة رشق مواكب النوّاب بالبيض والبندورة وحتى بالحجارة بالتزامن مع إطلاق الهتافات المُسيئة والشتائم، فإنّه عكس غوغائيّة كبيرة في التعامل مع أمور مصيريّة، وقصر نظر غير مُبرّر لدى المسؤولين عن هذه التحرّكات. وعلى الرغم من أحقّية المطالب والتي تُؤيّدها شريحة واسعة من اللبنانيّين، لجهة رفض التمديد الثالث الجديد لمجلس النوّاب، ولجهة الإمتعاض من تهريب قانون إنتخابي جديد من قبل مجموعة ضيّقة من القوى السياسيّة من دون فتح باب النقاش الجدّي والمُفصّل لأي طرف آخر، حتى للنوّاب المعنيّين بهذا القانون، فإنّ الرأي العام اللبناني لم يهضم هذا النوع من التصرّفات الصبيانيّة التي تُسيء إلى "المُجتمع المدني" قبل سواه، وتضعه في مصاف قُطّاع الطرق و"زعران" الشوارع. وليس سرّا أنّ الرشق بالبيض أو التعرّض للكرامات الشخصيّة للنوّاب لا يُغيّر حرفًا في الواقع القائم، حيث المطلوب من ناشطي "المُجتمع المدني" – إذا كانوا فعلاً راغبين برفع فرص الفوز ببعض المقاعد النيابيّة، الإنكباب على العمل، لجهة تحضير لوائح كاملة ومُنسجمة بين أعضائها، وإجراء دراسات للشخصيّات الأكثر إستقطابًا للناخبين، والشروع في السعي لعقد تحالفات سياسيّة مع قوى سياسيّة نافذة ترغب بدورها بتغيير الطبقة السياسيّة الحاكمة، والعمل أيضًا على وضع برامج عمل واقعيّة وقابلة للتطبيق والتواصل مع الناخبين لإقناعهم بها، إلخ.

في الخلاصة، لا شكّ أنّ رئيس الجُمهوريّة يتصرّف بواقعيّة من مبدأ أنّ "السياسة هي فنّ المُمكن"، وهو يعتبر - من هذا المنطلق أنّ العمل الإصلاحي الجِدّي يجب أن يبدأ اليوم قبل الغد، من دون إنتظار نتائج الإنتخابات النيابيّة المُقبلة، ولا الحُكومة التالية بحيث تحوّلت الحكومة الحالية إلى حكومة العهد الأولى بحكم الأمر الواقع. أمّا بعض "ناشطي المُجتمع المدني" فقد أثبتوا بتصرّفاتهم الغوغائيّة الأخيرة أنّهم لم يبلغوا بعد مرحلة "النضج السياسي" التي تخوّلهم أن يكونوا في المُستقبل نوّابًا تغييريّين ومُمثّلين للشعب الذي كان ينتظر منهم أكثر بكثير من رمي البيض وإطلاق الشتائم!