شهدت مناطق في الشرق والجنوب السوري خلال الأسابيع القليلة الماضية، سلسلة من الإحتكاكات الأمنيّة بين "قوّات التحالف" بقيادة الولايات المُتحدة الأميركيّة من جهة، و​الجيش السوري​ والقوى الحليفة له من جهة أخرى، وجرى تسجيل إسقاط أكثر من طائرة إستطلاع، وتنفيذ أكثر من غارة وقصف صاروخي ضُدّ الجيش السوري والقوّات غير النظاميّة المُساندة له، قبل أن يُشكّل إسقاط واشنطن طائرة سورية مُقاتلة من طراز SU 22 النقطة التي أفاضت الكوب-إذا جاز التعبير، حيث هدّدت روسيا بأنّها ستعتبر الطائرات التابعة للتحالف الذي تقوده أميركا أهدافًا مُحتملة في حال تحليقها غرب نهر الفرات، وستتعقبها بالأنظمة الصاروخيّة وبالطائرات المُقاتلة، الأمر الذي إستوعبته "قوّات التحالف" عبر مُسارعتها إلى وقف التحليق في تلك المنطقة. فهل بلغ الوضع في الشرق السوري مرحلة الإنفجار المُباشر بين القوى الإقليميّة والدَولية التي كانت حتى الأمس القريب تتصارع بشكل غير مُباشر عبر قوى مُوالية لها؟.

بداية، لا بُد من الإشارة إلى أنّ أسباب التوتّر الحالي من الناحية الميدانيّة تعود إلى سعي مجموعات مُسلّحة عدّة مُنضوية تحت مُسمّى "قوّات سوريا الديمقراطيّة" المُدرّبة والمُسلّحة من قبل الولايات المتحدة الأميركية وبدعم مُباشر من طائرات سلاح الجوّ الأميركي التي تعمل إنطلاقًا من قاعدة التنف العسكريّة داخل سوريا، وتحديدًا على المثلّث الحُدودي العراقي-السوري-الأردني، للسيطرة على أوسع مساحة مُمكنة من مواقع تنظيم "داعش" الإرهابي في الرقّة، في مُقابل سعي الجيش السوري والقوى الداعمة له إلى قضم مواقع "داعش" في كل من الرقة والبادية السورية وفي ريف الرقّة الجنوبي، وإلى السيطرة على أوسع مساحة حُدوديّة مُمكنة مع العراق.

وقد نجح الجيش السوري مدعومًا من قبل وحدات عسكريّة غير نظاميّة من لبنان وإيران والعراق، تحمل أسماء "كتائب الإمام علي" و"قوات 313" و"الأبدال" وغيرها، من تثبيت مواقعه في المناطق التي كسبها أخيرًا، بحيث أمّن "التواصل الإستراتيجي" مع قوّات "​الحشد الشعبي​ العراقي" التي سيطرت بدورها أخيرًا على معبر "الوليد" المُقابل لمنطقة التنف، وذلك على مساحة لا بأس بها من الحدود السوريّة - العراقيّة. وتُخطط قيادة الجيش السوري أيضًا لقطع طريق إمداد "قوات التحالف" إلى مُحافظة "دير الزور"، وإلى فصل مناطق سيطرة "المُعارضة" السورية جنوبي البادية السوريّة، عن شمال هذه البادية وعن وسطها، مع الإشارة إلى أنّ فصائل "مُعارضة" مُسلّحة، مثل "مغاوير الثورة" و"جيش أسود الشرقيّة" المدعوم من غرفة "موك"، كانت تُعدّ العدة لمُهاجمة مناطق سيطرة "داعش" في دير الزور.

من جهة أخرى، تخشى القوّات الأميركية وتلك المُوالية لها في قاعدة التنف والمنطقة المحيطة في البادية السورية، أن تُصبح بحكم المُحاصرة عسكريًا، في حال نجاح الجيش السوري والقوى الحليفة له في التقدّم على الخط الحدودي مع الأردن. وتجنّبًا لهذا "السيناريو" حاولت واشنطن تثبيت "خطوطها الحمراء" في سوريا، عبر رفع عديد قوّاتها العسكرية في "قاعدة التنف"، وتزويد هذه القاعدة بنظام صاروخي متطوّر بإسم Himars، وتكثيف الحماية الجويّة للقوات الأميركية والحليفة على الأرض، وخُصوصًا عبر ضرب أي أنشطة عسكريّة مُعادية قريبة من القاعدة المذكورة. كما تعمل القوات الأميركيّة على بناء قاعدة عسكريّة ثانية في منطقة "الزكف" في منطقة "البادية السوريّة" أيضًا، لكنّها تبعد 70 كيلومترًا عن قاعدة "التنف".

أمّا أسباب التوتّر الحالي من الناحية الجيوسياسيّة، فهي تتمثّل ببلوغ الصراع في سوريا مرحلة التقاسم النهائي لمواقع السيطرة على الأرض، ولمواقع النُفوذ السياسي، وذلك بين واشنطن وموسكو بالدرجة الأولى، وبين قوى إقليميّة عدّة بالدرجة الثانية. وبالتالي، ترغب واشنطن بتفعيل حُضورها في الملفّ السوري، ولو عبر ضربات عسكريّة رمزيّة، كونها تفتقر إلى قوّة عسكريّة ميدانيّة قادرة على تغيير الواقع على الأرض، خاصة وأنّ مشاكل الدول العربيّة الداخليّة المُتفاقمة جعلتها تبتعد أكثر وأكثر عن الملفّ السوري، لا سيّما وأنّ نتائج تدخّلها السابق جاءت مخيّبة لآمالها. في المُقابل، تعتبر موسكو أنّ ما تحقّق من تغيير في موازين القوى في سوريا، بفضل تدخّلها العسكري المُباشر، أكثر من جيّد، وهي لا تطمح للإنجرار إلى مزيد من المعارك، لكنّها ترغب في الوقت عينه بالحرص على عدم خسارة ما كسبته في الميدان، عن طريق الضُغوط الأميركيّة المُتصاعدة ضُدّ القوى الحليفة.

ويُمكن القول في الختام إنّ ما يجري حاليًا لن يصل إلى مرحلة الإنفجار الشامل بأي شكل من الأشكال، حيث أنّ الأمر لا يتعدّى كونه عبارة عن ترسيم مجموعة من "الخطوط الحمراء" المُتبادلة، من قبل مُختلف الأطراف الدَوليّين المُتدخّلين بالأزمة السورية، وذلك حفاظًا على مصالحهم الإستراتيجيّة في المنطقة، وتقوية لموقعهم التفاوضي في أقرب فرصة في المُستقبل.