قبيل الانتخابات الرئاسية، اختلط الحابل بالنابل في المشهد الداخلي لجهة التحالفات السياسية، ولم يعد الحديث عن انقسامٍ عمودي بين قوى الثامن من آذار من جهة والرابع عشر من آذار من جهة ثانية واردًا، خصوصًا بعد التفاهم بين "التيار الوطني الحر" و"​القوات اللبنانية​" الذي أرسى قواعد ومعادلات جديدة استصعب على الكثيرين فهمها.

اليوم، ومع إنجاز قانون الانتخاب، وبدء الاعداد للانتخابات النيابية التي ستجري وفق القانون النسبي للمرة الأولى في تاريخ لبنان، عاد الحديث عن مساعٍ لدى البعض لإعادة إحياء قوى 8 و14 آذار، بشكلٍ أو بآخر، ويُقال أنّه الهدف المضمر أصلاً من إصرار بعض القوى، وفي مقدّمها "حزب الله"، على النسبية... فهل مثل هذا الأمر وارد عمليًا؟

هدفٌ مُعلَن

على الرغم من نعي قوى "8 و14 آذار" قبل أشهر، وحتى دفنها تحت التراب، إلا أنّ إنجاز قانون الانتخاب الجديد وبدء التحضير عمليًا للمعركة أحيا لدى كثيرين الحنين إلى ما يصفونه بـ"الزمن الجميل"، والرغبة بإعادة إحياء التحالفات العابرة للحدود.

ولعلّ "حزب الله" و"حركة أمل" حين أصرّا على القانون النسبيّ، ولا شيء غيره، أكثرياً كان أم مختلطاً أم تأهيلياً إلى آخره من المسمّيات، لم يكونا حريصَين على إفساح المجال أمام "خرق" لوائحهما، الأمر الذي كان شبه عصيّ على خصومهما سابقًا، بقدر ما سعيا إلى ضمان تمثيل حلفائهما في مختلف المناطق، وخصوصًا تلك التي كانت "مُحتكَرة" من قبل وجوهٍ محدّدة بفعل النظام الأكثري.

وقد يكون خير دليلٍ على ذلك رفض "حزب الله" بالتحديد لمختلف قوانين الانتخاب التي قُدّمت، حتى من جانب حليفه "التيار الوطني الحر"، واشتمّ من خلالها نوايا واضحة بـ"عزل" و"تهميش" بعض "الحلفاء"، وفي مقدّمهم رئيس تيار "المردة" النائب سليمان فرنجية، تحت طائلة نسف القانون عن بكرة أبيه. وقد باشر الحزب سلسلة "وساطاتٍ" لإصلاح "الخلل" داخل معسكر "​8 آذار​" السابق، وما "المصافحة العابرة" التي رُصِدت بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والنائب فرنجية على هامش لقاء بعبدا التشاوري، والتي يقال أنّ الحزب ساهم بحصولها عبر إقناعه الرئيس بتوجيه دعوة رسمية لفرنجية، سوى "أول الغيث" على هذا الصعيد، وإن لم تكن كافية.

من هنا، فإنّ ما يطمح إليه "الحزب" مع حلفائه هو استثمار القانون النسبيّ الذي تمّ إقراره لـ"إعادة وصل ما انقطع" طيلة الأشهر الماضية، فهو يعتقد أنّ "الإنجاز" الذي تحقّق لن يكتمل إلا بتشكيل كتلةٍ عريضةٍ تمثّل التحالف، وتكون موازية لكتلتي "الوفاء للمقاومة" و"التنمية والتحرير"، خصوصًا أنّ مثل هذه الكتلة من شأنها أن توفّر له غطاءً نيابيًا واسعًا، وسيكون من خلال قادراً على تحقيق التغيير الذي يطمح إليه.

عقبات بالجملة...

يرى "حزب الله" إذاً أنّ هناك مصلحة جدية باستعادة أمجاد تحالف الثامن من آذار بعد الانتخابات النيابية التي ستجري وفق القانون النسبيّ، لاعتقاده أنّ هذا القانون سيوفّر لهذا التحالف ما لم يكن موفّراً عند انتخابات 2009، وسيفرز له أكثرية حقيقية، في استعادةٍ لخطاب "الأكثرية الشعبية" و"الأكثرية النيابية" الذي ساد بعد تلك الانتخابات.

إلا أنّ عقباتٍ عدّة لا تزال تحول دون هذا المشروع "الطموح"، أولها داخل "8 آذار" نفسها، التي تبقى، رغم المحاولات "المتواضعة" لإعادة لمّ شملها، غير صلبة. ولعلّ سلسلة "الجبهات المفتوحة" من قبل "التيار الوطني الحر" كافية للدلالة على ذلك، في ضوء تبايناته مع معظم مكوّنات "8 آذار"، باستثناء "حزب الله" ربما، رغم بعض "الاهتزاز" الذي رُصِد خلال مرحلة إقرار القانون.

وإذا كانت العلاقة بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" بدأت تتراجع من حيث الزخم، في ضوء بعض موجات التشكيك بإمكان ترجمتها عبر تحالف انتخابي كامل وشامل بفعل تعقيدات القانون الجديد، وكون "حزب الله" يرفض الانخراط في تحالفٍ انتخابي يضمّ "القوات"، فإنّ علاقة "التيار" ببعض قوى "8 آذار" لا تبدو أفضل حالاً، وعلى رأس هؤلاء رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي "لا كيمياء" بينه وبين "التيار"، وكذلك تيار "المردة"، الذي لا تبدو "القطيعة" بينهما قد انتهت، رغم كلّ شيء.

ومن العقبات التي تحول أيضًا دون إبصار مثل هذا المشروع النور أنّ قوى "14 آذار" في المقابل لا تبدو قابلة للحياة بأيّ شكل، بل إنّ أقصى المأمول على خطها بات تكريس التحالف بين "القوات" و"المستقبل" فقط لا غير، فـ"الكتائب" أصبح في مكانٍ آخر تمامًا، خارج الاصطفافين ككلّ، والنائب وليد جنبلاط، الذي انفصل عن "14 آذار" منذ فترةٍ طويلةٍ، بات أقرب إلى "8 آذار" منها، خصوصًا في ضوء الخلافات الآخذة في التصاعد مع "تيار المستقبل". أما من كانوا يُعرَفون بـ"مستقلي 14 آذار" فباتوا خصوم "القوات"، التي يعتبرون أنّها أرست تفاهمًا مع "التيار" على حسابهم، ودون اعتبارٍ لمصلحتهم.

ولكلّ هذه الأسباب، فإنّ "المستقبل" و"القوات"، وهما ما تبقّى عمليًا من "14 آذار"، لا يبدوان مستعدَّين لترك الساحة لتحالف "8 آذار"، لأنّ المنافسة في هذه الحال لن تكون متوازنة، علمًا أنّ استراتيجية "المستقبل" الجديدة مبنيّة على "انفتاح مطلق" على جميع الفرقاء، بما يتناقض مع توجّهات إعادة إحياء الانقسام العمودي السابق، وهو يحرص على بناء علاقةٍ ممتازةٍ مع "التيار الوطني الحر" بشكلٍ خاص، ولذلك معانيه ودلالاته أيضاً.

طموحٌ مشروع...

منذ الانتخابات الرئاسية حتى اليوم، ذابت التحالفات السياسية في بعضها البعض، ولم يعد أحد يعرف على وجه التحديد أيّ فريق يمكن أن يصنَّف حليفًا لأيّ فريق، فـ"التيار الوطني الحر" مثلاً متحالفٌ مع "حزب الله" كما "القوات"، اللذين لا تربطهما سوى الخصومة، و"حزب الله" متحالف مع "التيار" و"أمل"، اللذين لا كيمياء بينهما، إلى آخره.

ومن اليوم وحتى الانتخابات النيابية، تبقى خارطة التحالفات عرضة للكثير من التغييرات، تغييراتٌ قد يكون أساسها انتخابيًا لا سياسيًا، لأنّ الطموح بنسج تحالفاتٍ على صعيد الوطن، سواء بمسميات 8 و14 آذار القديمة، أو بمسميات جديدة أكثر انسجاماً مع المرحلة الحالية، مشروعٌ، بل إنّ القانون الجديد يحتّمه بشكلٍ أو بآخر...