شكّ أنّ إجراء الإنتخابات النيابيّة المُقبلة وفق مبدأ التصويت النسبي وليس الأكثري، وإعتماد "الصوت التفضيلي" ضُمن اللائحة الواحدة، يعني حُكمًا أنّ الحماوة الإنتخابيّة ستكون حاضرة في مُختلف التقسيمات الإنتخابيّة التي جرى إعتمادها من دون أي إستثناء، لكن المُنافسة ستكون أشدّ في بعض الدوائر لإعتبارات مختلفة. وفي هذا السياق، يُمكن الحديث عن "معارك إنتخابيّة طاحنة" يُنتظر وقوعها في ثلاث دوائر بشكل خاص، هي:

أوًلا: دائرة "بشرّي-زغرتا-الكورة-البترون" ستشهد أشدّ المعارك الإنتخابيّة، حيث أنّ تكتّل حزب "القوات اللبنانيّة" يضم حاليًا أربعة نوّاب موزّعين على ثلاثة من أقضية هذه الدائرة الأربعة، أي نصف عدد نوّابه الحاليّين! وسيجهد حزب "القوّات" بالتالي للحفاظ على هذا الحُضور في هذه الدائرة الشمالية التي يطغى عليها الصوت المسيحي بشكل حاسم، ولتأكيد الحُضور "القوّاتي" فيها. كما سيسعى لتأكيد نفوذ رئيسه سمير جعجع في تلك المنطقة التي شاء القدر أن تحضن العديد من المُرشّحين المُحتملين إلى منصب رئاسة الجمهورية في الدورة المُقبلة، والذي يعتبر "الحكيم" واحدًا منهم. بالنسبة إلى "التيّار الوطني الحُرّ" الذي يُعتبر رئيسه وزير الخارجيّة جبران باسيل أحد المرشّحين الأساسيّين لرئاسة الجُمهوريّة أيضًا في الدورة المُقبلة، فإنّ معركته أساسيّة في هذه الدائرة الإنتخابيّة الشماليّة، لثلاثة أسباب تبدأ بإثبات الوجود "العُوني" فيها وبإعادة الإعتبار إلى وزير الخارجية الذي فشل في دورتين مُتتاليتين بالوصول إلى المجلس النيابي وفق نظام التصويت الأكثري السابق، وتمرّ برغبة "التيار البُرتقالي" أيضًا بالوقوف من الندّ للندّ بوجه حزب "القوّات" وعدم ترك دوائر كاملة في يد هذا الأخير، وتصل إلى هدف رئيس "التيّار" بإضعاف مُنافسه رئيس "تيّار المردة" النائب سليمان فرنجية الذي يُعتبر بدوره أحد المُرشّحين الرئاسيّين الأساسيّين في الدورة الإنتخابية المُقبلة المُفترضة نظريًا في العام 2022. ولا شك أنّ "تيّار المردة" يعتبر دائرة "بشرّي-زغرتا-الكورة-البترون" معركة "حياة أو موت" له، حيث أنّه سيسعى جاهدًا لمنع ضربه في "معقله" في زغرتا، وإلى إثبات شعبيّته وحُضوره في كل أقضيّة الدائرة، ضُد كل من "القوّات" و"التيار" معًا. ولا ننسى الإشارة إلى أنّ هذه الدائرة الشمالية تضمّ أيضًا ثقلاً للحزب القومي السوري الإجتماعي الذي يرغب من جهته بايصال نوّاب له إلى البرلمان من تلك المنطقة الشمالية وتحديدًا في الكورة، وثقلاً لحزب "الكتائب اللبنانيّة" الذي يرغب بدوره بإيصال نوّاب له من تلك المنطقة وتحديدًا في البترون. كما أنّ وُجود بعض الشخصيّات المُستقلّة مُرتبط بهذه الدائرة الإنتخابيّة الحسّاسة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر النائب فريد مكاري، والنائب بطرس حرب.

دائرة "​طرابلس​-المنية-الضنية" ستشهد أيضًا أشدّ المعارك الإنتخابيّة، حيث سيكون على "تيّار المُستقبل" إثبات قوّته السياسيّة بوجه خُصومه السياسيّين ومنهم رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي والوزير السابق فيصل كرامي على سبيل المثال لا الحصر، وكذلك بوجه شخصيّات خرجت في الماضي القريب من تحت عباءة "الحريريّة السياسيّة" وتُحاول إيجاد حيثيّة لنفسها، وفي طليعتها مدير عام قوى الأمن الداخلي السابق اللواء أشرف ريفي. وهذه الدائرة الإنتخابيّة التي ستُشكّل علامة فارقة في إستمرار سيطرة "المُستقبل" على الشارع السنّي أو عدمه، تحمل أيضًا أبعادًا تتجاوز أهمّية 11 مقعدًا نيابيًا، بينهم ثمانية للطائفة السنّية، وتصل إلى معركة رئاسة الحكومة والتي تشمل أيضًا النائب محمد الصفدي إضافة إلى رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي. كما سيسعى العلويّون-بمُساعدة مُناصري قوى "8 آذار" لإستعادة مقعدهم النيابي الذي يُسيطر عليه "تيّار المُستقبل". وبالنسبة إلى المقعدين المسيحيّين فهما من بين المقاعد التي حاول "الثنائي المسيحي" نقلها إلى دائرة أخرى، وخاصة المقعد الماروني فيها، لأنّه مُجيّر حاليًا من قبل "تيّار المُستقبل" لصالح حزب "الكتائب اللبنانيّة" وكأنّ مُناصري الحزب في طرابلس يُعدّون بعشرات الآلاف! لكن للأسف، وعلى الرغم من توقّع حُصول تبديل في الإسمين اللذين سيشغلان المقعدين المسيحيّين في هذه الدائرة، فإنّ مصيرهما ليس بيد القوى المسيحيّة، وسيخضع للتفاهمات وللتحالفات السياسيّة التي ستحصل عشيّة الإنتخابات.

ثالثًا: دائرة "الشوف-عاليه" وهي أكبر دائرة إنتخابية من حيث عدد النوّاب بحسب تقسيمات القانون الجديد، ستكون معركة مصيريّة للحزب التقدّمي الإشتراكي ولرئيسه النائب وليد جنبلاط بالتحديد، حيث أنّ زعامته السابقة في المنطقة مُرشّحة للتراجع بشكل دراماتيكي. وسيكون على الحزب "الإشتراكي" نسج تحالفات "ذكيّة" والتنازل عن مزيد من المقاعد النيابيّة للإبقاء على نُفوذه، خاصة وأنّ "الثنائي المسيحي" يتطلّع بدوره لإستعادة مقاعد عدّة كانت ضحيّة القانون الأكثري، حيث أنّ عدد المقاعد الدرزيّة في هذه الدائرة يقتصر على أربعة في مُقابل خمسة مقاعد للموارنة إضافة إلى مقعدين مسيحيّين آخرين، أحدهما للكاثوليك والآخر للأرثوذكس. واللافت أنّ "تيّار المُستقبل" الذي يملك ثقلاً شعبيًا في منطقة إقليم الخروب ضُمن هذه الدائرة، سيُحاول من جهته إثبات حُضوره السياسي وتأثيره الكبير في ترجيح كفّة هذه اللائحة أو تلك. ومعركة "الإشتراكي" لن تقتصر على مُحاولة الإحتفاظ بمقاعد مسيحيّة وسنّية كانت تحت جناحي "الزعامة الجنبلاطيّة" في هذه الدائرة، بل ستشمل مُواجهة شخصيّات درزيّة عدّة طالبت مرارًا بالقانون النسبي لإثبات حيثيّاتها الشعبيّة، علمًا أنّها تحظى بدعم أحزاب ومُناصري قوى "8 آذار".

في الختام، لا بُد من الإشارة إلى أنّ المعارك الإنتخابية ستكون قاسية أيضًا في دوائر أخرى، ومنها "كسروان جبيل" وزحلة و"صيدا-جزين" وغيرها، ولكنّ المعارك في الدوائر الثلاث المذكورة أعلاه ستكون الأشرس لأنّ الربح فيها مُضاعف من حيث القيمة والخسارة فيها مُضاعفة أيضًا!