منذ وصوله إلى قصر بعبدا، كان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يصرّ على أنّ العهد الجديد لن ينطلق إلا بعد الانتخابات النيابية، التي ستفرز مجلساً نيابياً منتخباً وشرعياً، بخلاف المجلس الحالي الذي لطالما وصفه بـ"غير الشرعي"، منذ انتهاء ولايته الأصليّة قبل أربع سنوات.

وانسجاماً مع هذا المبدأ، رفض الرئيس عون توصيف الحكومة الأولى التي تشكّلت في عهده بـ"حكومة العهد الأولى"، خصوصاً أنّ هذه الحكومة، بالتسوية التي سمحت بإبصارها النور وتركيبتها الهشّة، أتت "نسخة طبق الأصل" عن الحكومات السابقة، ولم تلبّ طموحات الرئيس وتوقه نحو التغيير.

لكنّ الوضع اختلف اليوم، بعد إقرار قانون انتخاب والتمديد تقنياً للمجلس لأحد عشر شهراً، ما يعني أنّ المجلس النيابي الجديد لن يشكّل قبل انقضاء ما يزيد على ربع الولاية الرئاسيّة، ما يدفع للتساؤل: هل انطلق العهد أخيراً بصورة عمليّة، أم أننا سنكون أمام تمديدٍ للمرحلة الانتقاليّة تحضيراً للانتخابات، لا أكثر ولا أقلّ؟.

واقع جديد

في البداية، لا شكّ أنّ ما قبل إقرار قانون الانتخاب هو غير ما بعده بالنسبة لرئيس الجمهورية، تماماً كما أنّ التمديد الثالث، الذي أخذ مسمّى "التقني"، لا يشبه التمديدين الأول والثاني، وإن كان التمديد، أياً كانت أسبابه وموجباته، هو تمديدٌ بكلّ ما للكلمة من معنى.

ومن هذا المنطلق، فإنّ رئيس الجمهورية، الذي كان ينتظر أن تكون الانتخابات النيابية هي "الفيصل" في عهده، بات ينظر إلى إقرار قانون الانتخاب بوصفه "النقطة الفاصلة"، وهو الذي سارع لوضع إنجاز القانون في "سجلّ العهد"، الذي لا يخفى على أحد أنّه يسعى منذ اليوم الأول إلى تكريسه عهداً مختلفاً بكلّ شيء عن كلّ ما سبقه.

ولذلك، فإنّ هناك قناعة لدى الرئيس والمحيطين به بأنّ "واقعاً جديداً" كرّسه إقرار قانون الانتخاب، واقعٌ حصر إلى حدّ ما فداحة أضرار التمديد، الذي كان يُخشى أن يشكّل "انتكاسة مدوية" للعهد، إلا أنّ هذا الواقع يفترض عدم "الاستسلام" للتمديد بشكلٍ مُطلَق، وترحيل انطلاقة العهد لما بعد انتهاء مدّته القسرية، بل يوجب التعاطي معه بأسلوب يعكس جدّية والتزاماً حقيقيّين وغير تقليديّين.

اتفاق شامل

ولعلّ اللقاء التشاوري الذي عقده رئيس الجمهورية في بعبدا الأسبوع الماضي، رغم كلّ المآخذ والتحفّظات الكثيرة عليه، من تغييبه لشخصيات المعارضة إلى البيان الختامي الذي صدر عنه والذي رآه البعض إنشائياً، شكّل "أول الغيث" على هذا الصعيد، خصوصاً أنّ هذا اللقاء أطلق بشكلٍ أو بآخر "خارطة طريق" عمليّة لورشةٍ إصلاحيّة تشريعيّة سياسيّة اقتصاديّة اجتماعيّة، يفترض أن تبصر النور مباشرةً بعد انقضاء عطلة عيد الفطر.

ولا شكّ في هذا الإطار أنّ هناك اتفاقاً كاملاً بين الرئيس عون من جهة ورئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس المجلس النيابي نبيه بري على المضيّ في مثل هذه الورشة، التي فيها مصلحة لكليهما قبل غيرهما، فرئيس الحكومة يحرص منذ فترة على إيلاء الوضعين الاقتصادي والاجتماعي الأولوية، بما يتقاطع مع الاستراتيجيّة "الشبابيّة" المنفتحة التي ينتهجها، والتي يحاول من خلالها استعادة ما فقده من شعبية خلال سنوات "الغربة القسرية"، بعيداً عن أهوال السياسة التي قد تهزّ حكومته القائمة على التناقضات.

وفي المقابل، فإنّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري يريد استثمار إنجاز الاتفاق على قانون الانتخاب لتعويض ما فات تشريعيًا، في ضوء الاتهامات الكثيرة للمجلس النيابي بأنّه لم يحقّق شيئاً خلال ولايته الممدّدة، التي حاصرها شبحا الفراغ الرئاسي وقانون الانتخاب، اللذين كان العديد من الأفرقاء يرفضون تحريك أيّ ملفّ آخر قبل البتّ بهما. وبما أنّ هذين الملفّين حُسِما، فهو يريد استغلال الفرصة لإطلاق ورشةٍ تشريعيّة متكاملة، مستفيدًا أيضاً من العقد الاستثنائي الذي أصدر رئيس الجمهورية مرسومًا بفتحه، بالاتفاق مع بري.

الانتخابات بالمرصاد...

ولكن، هل يصمد مثل هذا الاتفاق السياسي فعلاً، فتشهد البلاد ورشة تنقذ العهد من الرتابة، وتوفّر له الانطلاقة التي يتوق إليها، أو على الأقلّ "بروفا" حقيقية للانطلاقة المؤجّلة لما بعد انتخابات 2018؟.

في المبدأ، يبدو التفاؤل بذلك مبالَغًا به، ولو كان التشكيك برغبة الجميع بتمرير المرحلة الفاصلة عن الانتخابات النيابية بالتي هي أحسن في غير محلّه، لأنّ تحصين الاستقرار ليس الأمني فحسب، بل السياسي وقبله الاقتصادي والاجتماعي هو مصلحة مشتركة للجميع، وهي تخدمهم أصلاً في معاركهم الانتخابية المنتظرة.

ولكنّ تداخل عدّة اعتبارات وحسابات يجعل الأمر أقرب لـ"الأمنيات" ليس إلا، وفي صدارتها التجارب السابقة غير المشجّعة، إذ إنّها ليست المرّة الأولى التي يسمع فيها اللبنانيون تصريحاتٍ من النوع الذي يسمعونه اليوم، وهم يتذكّرون جيّداً ما قيل خصوصاً بعد التمديد الأول للمجلس النيابي، حين خرج رئيسه نبيه بري واعداً بأنّ المجلس، في ولايته الممدّدة، سيتحوّل إلى خليّة نحل، وسينجز أضعاف أضعاف ما أنجزه في ولايته الأولى، وكانت النتيجة أن ترحّم اللبنانيون على تلك الولاية الهجينة لأنّ شيئاً لم يحصل بعدها.

وأبعد من الحكم على النوايا، تبقى الحسابات الانتخابية بالمرصاد أولاً وأخيراً، وهي ستتصدّر كلّ الاهتمامات خلال المرحلة المقبلة، شاء من شاء وأبى من أبى. من هنا، فإنّ أيّ ورشةٍ داخليّة، أياً كان عنوانها، ستكون خاضعةً في الصميم لبازار الانتخابات، التي لا تزال صورتها غير واضحة وتحالفاتها غامضة، والتي تبقى الخريطة السياسية برمّتها "رهينة" لها، بانتظار اليوم الموعود. وبغضّ النظر عمّا يقوله المسؤولون وعمّا يفعلونه لإلهاء اللبنانيين وتمرير الوقت، فإنّ الأكيد أنّ شيئًا لن يحوز على تفكيرهم في القادم من الأيام أكثر من الانتخابات والتحالفات، والسباق الحميم على كسب مقعدٍ إضافي من هنا أو من هناك.

إنها الانتخابات...

باختصار، إنّها الانتخابات التي بدأ موسمها الفعلي جدياً، وليس الوقت مبكراً لذلك أبداً، بل إنّ التمديد "التقني" الطويل نسبياً لم يكن بسبب بطاقة ممغنطة كما أشيع ولا من يحزنون بقدر ما كان لتوفير الوقت للمسؤولين لاستيعاب القانون وتركيب اللوائح والتحالفات وما شابه...

إنّها الانتخابات التي ستسيطر على المشهد السياسي بمعزلٍ عن كلّ شيء طيلة المرحلة المقبلة، والتي ستتحكّم بالبلاد والعباد، وكلّ ما عداها مجرّد تفاصيل لا تقدّم ولا تؤخّر في عين الطبقة السياسية شيئاً...