لم تكن المرّة الأولى التي تتباين فيها وجهات النظر بين رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب ​وليد جنبلاط​ وقد لا تكون الأخيرة، إلا أنّها اتخذت، في مفارقةٍ نادرة، منحىً خطيرًا بتبادل الرجلين القصف الكلاميّ، ما كاد يخرج الأمور عن طورها.

حصل ذلك ربما في لحظةٍ من "لحظات الغضب" أو "الانفعال" التي طبعت مسيرة "البيك"، المحنّك في السياسة، قبل أن تأخذ وساطات التقريب بين الرجلين مسارها الطبيعيّ، دون تعقيدات ومشاكل تُذكر، لتتوّج بالاتصال الذي جمعهما قبل يومين، بمبادرةٍ من جنبلاط، والذي يُتوقَّع أن يُستكمَل بلقاءٍ ثنائي لن يطول الوقت قبل انعقاده...

سحابة صيف؟

لم يُفاجأ أحد بالاتصال الذي أجراه رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط برئيس الحكومة سعد الحريري قبل يومين، بل بدا أنّ السبب المُعلَن للاتصال، أي التشكيلات والمناقلات الدبلوماسية التي يعدها وزير الخارجية ​جبران باسيل​، لم يكن سوى "الحُجّة" التي استند إليها جنبلاط لكسر "قطيعةٍ"، لم يكن يريدها أن تطول بأيّ شكلٍ من الأشكال، لأنّ لا مصلحة له بذلك على الإطلاق.

فعلى الرغم من أهمية ​التشكيلات الدبلوماسية​ وحساسيتها بالنسبة إلى "البيك"، خصوصًا في ضوء ما يُحكى عن نيّة وزير الخارجية إسناد سفارة لبنان لدى روسيا لسفير من الطائفة الأرثوذكسية، رغم أنّها من حصّة الطائفة الدرزية وفق العرف في توزيع السفارات، وهو ما لا يمكن لجنبلاط أن يقبل به، ويحتاج لدعم الحريري في موقفه، إلا أنّ الأساس بالنسبة إليه كان إعادة علاقته مع الحريري إلى سابق عهدها، وما عدا ذلك تبقى تفاصيل يمكن معالجتها مع الوقت.

ولعلّ توصيف جنبلاط نفسه لما حصل من تأزّم على خطّ العلاقة بين "الحزب التقدمي الاشتراكي" و"​تيار المستقبل​" بأنّه "سحابة صيفٍ وقطعت" دليلٌ على نيّة الرجل إعادة وصل ما قطعه بنفسه مع الحريري، خصوصًا حين اتهمه، تلميحًا أو جهارًا، بـ"الإفلاس السياسي"، ووضعه في خانة "المفلسين الجُدُد". ولعلّ هذه النقطة بالتحديد هي التي تجعل الحريري "يتريّث" في التجاوب مع طروحات جنبلاط، ريثما تُحَلّ هذه الإشكالية، ويتمّ إيجاد مَخرَجٍ ملائمٍ للرجلين على حدّ سواء، وإن كان يدرك في قرارة نفسه أنّ الأمور ذاهبة للحلّ في النهاية.

ومن هنا، فإنّ لا شكّ أنّ العلاقة بين الجانبين بدأت بالعودة إلى مسارها الطبيعي، وإن بوتيرةٍ بطيئةٍ بعض الشيء، وبصورةٍ تدريجية، ويكفي أنّ الاتصال الذي جرى بين جنبلاط والحريري استُتبِع بصورةٍ تلقائية بلقاءٍ بين الوزير وائل أبو فاعور ومدير مكتب الحريري، نادر الحريري، وهو لقاءٌ وُضِع في خانة المساعي لترميم العلاقة بين "المستقبل" و"الاشتراكي"، علمًا أنّ أكثر المتشائمين لا يستبعد حصول اللقاء بين الحريري وجنبلاط في موعدٍ قد لا يتخطّى نهاية الأسبوع المقبل، على أبعد تقدير.

معادلة بسيطة...

​​​​​​​رغم بعض التحفّظات من هنا وهناك، أصبح واضحًا إذاً أنّ العلاقة بين "المستقبل" و"الاشتراكي" عائدة عاجلاً أم آجلاً إلى سياقها الطبيعي، المتعارف عليه منذ ما قبل اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، علمًا أنّ العلاقة تجاوزت بكلّ حزمٍ كلّ "الاهتزازات" التي طالتها خلال أكثر من عشر سنوات، ولا سيما بعد انسحاب "البيك" من قوى الرابع عشر من آذار، ما أدّى لتراجعها شيئًا فشيئاً وصولاً حتى تلاشيها، كما قفزت أيضًا فوق الكثير من النقاط الخلافية بين الجانبين، وخصوصًا على صعيد العلاقة مع "حزب الله" وكيفية مقاربتها.

وقد لا يكون مبالَغًا به القول في هذا السياق أنّ "التباين" بين الجانبين، حتى لو لم يصل لحدّ "الخصام" أو "العداوة" هو الأمر الشاذ عن القاعدة في العلاقة بين "المستقبل" و"الاشتراكي"، وبين الحريري وجنبلاط، وهي علاقة أصبحت محكومة، بما لا يحتمل اللبس، بمعادلةٍ واضحةٍ وبسيطةٍ، مفادها أنّ الالتقاء بينهما حاجة وليس خيارًا، وأنّ لا غنى لأيّ منهما عن الآخر، بمُعزَلٍ عن كلّ التفاصيل الأخرى، التي تبقى ثانوية وهامشية أمام الجوهر.

وإذا كانت هذه النظريّة تصحّ في كلّ المواسم والفصول، كما أثبتت التجارب، فإنّها تكتسب أهمية مضاعفة في الموسم الانتخابيّ، الذي يبدو أنّ لبنان قد دخله عمليًا، خصوصًا أنّ القاصي والداني يدرك أنّ جنبلاط، على سبيل المثال، بحاجة ماسة إلى التحالف مع "المستقبل"، الذي لا ينكر أحد ثقله الأساسي والكبير في منطقة إقليم الخروب، الواقعة ضمن دائرة "الشوف-عاليه"، تمامًا كما أنّ لـ"المستقبل" مصلحة في خوض الاستحقاق في هذه الدائرة أيضًا جنبًا إلى جنب جنبلاط، خصوصًا بعدما تمّ توحيد قضاءي الشوف وعاليه في دائرة واحدة، لا شكّ أنّ جنبلاط سيشكّل القوة الانتخابية الأكبر فيها.

ولعلّ تعقيدات القانون الانتخابي الجديد، الذي لا يمرّ يوم من دون أن يمرّر جنبلاط "لطشات جديدة" باتجاهه، وهو الذي أقرّ في حديث صحافي قبل أيام أنّه لا يزال عاجزًا عن استيعاب بعض تفاصيله، تزيد من حاجة الرجلين لبعضهما البعض، علمًا أنّ هذا القانون تطلب من كلّ منهما استراتيجية جديدة مغايرة عمّا سبق، قوامها الانفتاح على مختلف الأفرقاء قدر الإمكان. وإذا كان الحريري يمارس هذه الاستراتيجية منذ ما قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا، وقد شكّلت بطاقة عبور له نحو السراي الحكومي، بعد انقطاعٍ طويل، فإنّ جنبلاط، الذي لم يعد يستطيع لعب دوره الوسطي كـ"بيضة قبان" بفعل الانقلاب الذي حصل على خط التحالفات وذوبانها ببعضها البعض، قال بوضوح قبل أيام أنّ الصوت التفضيلي يفرض معادلة جديدة، ولذلك فهو يفضّل الذهاب نحو لائحة توافقية، وتجنّب المعارك الجانبية.

علاقة جديدة...

قبل أيام من اتصال جنبلاط بالحريري، تحدّث جنبلاط صراحةً عمّا أسماها "علاقة جديدة مع سعد الحريري"، وكأنّه كان يمهّد لكسر "القطيعة" التي ليست في مصلحة أيّ منهما. ذهب إلى حدّ القول أنّ العاطفة غلبت على الجميع بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، لكن اليوم هناك واقع جديد.

باختصار، تحدّث "البيك" عن علاقة جديدة وأسس جديدة، وقد يكون هنا لبّ الموضوع. بمعنى آخر، فإنّ العلاقة مع الحريري بحدّ ذاتها ليست خيارًا، بل لعلّ الرجلين مسيّران لا مخيّران فيها. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يخضع للنقاش يكمن في التفاصيل، من شكل العلاقة إلى مدى ذوبانهما ببعضهما البعض...