لن تكون القمة الأميركية الروسية التي عُقدت في هامبورغ حدثاً عادياً لوقت طويل، وهي من دون شك أسست لاتفاق إطار لشكل العلاقة الجديدة بين ​روسيا​ والأميركيين. الخلاف الروسي الأميركي الذي كان حاداً في الفترة الأخيرة بسبب مخاوف من تعاون روسي في إيصال ترامب لسدة الرئاسة، صار اليوم تعاوناً على أعلى مستوى وفي أدق الملفات التي تهمّ ​الولايات المتحدة​ الأميركية، وهو أمن «اسرائيل»، وهي أساساً محور السياسة الأميركية في الشرق الاوسط.

وحدها هدنة وقف إطلاق النار في الجنوب السوري استطاعت النجاح في كسر الجليد بين واشنطن وموسكو. كل هذا يؤكد شيئاً أساسياً، لا لبس فيه، وهو تكريس العلاقة الأميركية مع روسيا كحاجة أو ضرورة من دون مكابرة الأميركيين. فوحدها موسكو قادرة على لعب دور وساطة تضمن أمن تل أبيب بفضل علاقاتها وتحالفها مع محور ايران سورية حزب الله، وبفضل المعادلة التي رسمها تدخّلها العسكري المباشر في الميدان السوري.

تبدو واشنطن في هذا التوقيت من عمر أزمات المنطقة مهتمّة بتوزيع الأدوار وتحديد المخارج. وليس إعلان الهدنة في الجنوب والتواصل مع روسيا وحدهما مؤشرا الجدية الأميركية في ذلك، فقد برزت العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية بشخص الرئيس ترامب و​فرنسا​ بشخص الرئيس ماكرون ثنائية لافتة الأسبوع الماضي بما يتعلّق بمواقفها حول الشرق الأوسط.

اجتمع الرئيسان الأميركي والفرنسي في العاصمة باريس، وذلك بعد انتهاء أعمال قمة العشرين الاستثنائية النتائج والتي جمعت ترامب وبوتين لأول مرة ليعلن الطرفان عن التعاون لوضع «خريطة طريق» لما بعد الحرب على تنظيم الدولة «داعش» في الشرق الأوسط، حسب ماكرون، وهو إعلان واضح على نهاية مفعول المجموعة التكفيرية تلك التي تعتبر مولوداً استخبارياً دولياً ترأسه واشنطن والدول الغربية بأدنى التقديرات. أما في ما يتعلق بالعملية السياسية بمجملها، فقد جاء الحديث على لسان ماكرون أكثر صراحة واندفاعاً، فالرئيس الشاب يبدو أنه كثير الحماس للعب دور أوروبي فعّال دولياً بعد سلسلة اهتزازات سياسية واقتصادية عاشتها الدول الأوروبية.

الرئيس الفرنسي كشف أن بلاده قد تتخذ مبادرات قوية عدة لتحقيق استقرار أكبر و«ضبط المنطقة». وأعاد تأكيده للمرة الثانية، رغم محاولة تشويشات خرجت عن جلسته مع المعارض السوري رياض حجاب في اليومين الماضيين، أن مسألة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد لم تعُد شرطاً فرنسياً لإيجاد حل للصراع في سورية، مؤكداً أن كلامه هذا هو «تغيير فعلي» في سياسة فرنسا تجاه سورية «من أجل الحصول على نتائج»، داعياً لـ«العمل عن قرب مع «شركائنا»، خاصة الولايات المتحدة.»

يبدو الرئيس الفرنسي الجديد مختلفاً عن الرئيسين الفرنسيين السابقين اللذين عايشا مرحلة الأزمة السورية نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند. وهو يبدو ايضا مصمماً على إعادة فرنسا الى واجهة الدول الاوروبية النافذة كلاعب دولي اساسي، خصوصاً في الشرق الاوسط، لكن هذا لا ينفي ان الظروف التي تحيط بماكرون اليوم لم تعد تشبه تلك التي أحاطت بساركوزي وهولاند، لأن الجيش السوري وحلفاءه تقدموا باتجاه تحرير كامل الارض السورية، ولأن روسيا صارت أقوى لاعب عسكري سياسي على خط الأزمة السورية.

وعلى هذا الأساس تلعب الظروف «شبه الناضجة» دوراً في التأسيس لحلول أوضح وهي رغبة ماكرون بالتوصل إلى حل سياسي دائم.

تبدو العلاقة السياسية بالنسبة لفرنسا مع سورية غير قابلة للترتيب من دون أسس قانونية تشرّعها بعيون المعترضين والرئيس الفرنسي ذهب بعيداً جداً في خياراته السياسية في هذا الإطار. فهو أعلن أنه سجل ملاحظة واحدة انتقد فيها موقف بلاده السابق قائلاً «إننا أغلقنا سفارتنا في دمشق منذ سبع سنوات واشترطنا رحيل الأسد من دون الحصول على أي نتائج».

تجزم قنوات سياسية واسعة الاطلاع لـ«البناء» أن كلام ماكرون ليس إلا نوعاً من الاعلان المتاخر عما يجول في كواليس العلاقة الاستخبارية بين فرنسا وسورية، خصوصاً في ما يتعلق بمكافحة الارهاب. وتؤكد على ان مسؤولين أمنيين فرنسيين زارو دمشق وغيرهم منذ فترة بعيدة وفتحوا قنوات تنسيق معها. وقد سبقهم الى ذلك إيطاليون وغيرهم من الدول الاجنبية. وها هو ماكرون يعلن اليوم نيته فتح سفارة بلاده وهي الخطوة التي غالباً ما تكون «الأخيرة» بعد تحديد شكل العلاقات بين الدول، هذا بغض النظر عما اذا كانت باريس ستترجم كلام ماكرون قريباً أم لا. ويختم المصدر «مجرد الحديث عن هذا الامر هو تقدم لافت برأينا».

يبدو أن واشنطن اعتزمت تحويل فرنسا لاعباً شرق أوسطي منتجاً بعد القمتين الأكثر استراتيجية التي عقدهما ترامب مع بوتين وماكرون. ويبدو أنها قد تنتدبها أي فرنسا لتنسيق العلاقة مع روسيا في بعض الملفات، كمقدمة لتغير الموقف الأميركي الرسمي الذي يصعب أن يتلاقى دفعة واحدة مع روسيا كي لا تظهر واشنطن بمظهر المنضوي تحت الحياكة الروسية للخرائط الجديدة فتكون باريس التي لها يد طولى تاريخياً سلّمتها إياها واشنطن منذ عقود، قد استعادت هذا الدور بعهد ماركون الذي يبدو أنه سيكون مختلفاً عن أسلافه.

ترى واشنطن في باريس اليوم وسيطاً أوروبياً قادراً على حفظ ماء وجه الأميركيين بعد فشل مشروعهم في المنطقة، يُضاف إلى هذا الشروع بتسليمها ملفات أساسية لتحريكها كالصراع العربي «الإسرائيلي» والازمة الخليجية التي زار وزير خارجية فرنسا الكويت، سعياً لحل إضافة الى سورية وما يفوح من مواقف ترامب.

الأكيد أن الكيمياء أكثر بروزاً بين الثلاثة: ترامب وبوتين وماكرون.