علاقة ​تركيا​ والاتحاد الاوروبي تكاد تشبه العلاقة بين شخصين وقعا في الحب انما من دون القدرة على الزواج. غازلت تركيا اوروبا في فترة سابقة ونفضت عنها غبار التزمّت والدكتاتورية والصورة القاتمة التي كانت تظهر بها في اوروبا والعالم، وبدأت مرحلة انفتاح وتغيير كلي حتى باتت مقصداً سياحياً للكثير من الاوروبيين، فيما وسّعت مروحة الاتصالات لاكبر قدر ممكن، وتقربت من الولايات المتحدة بشكل غير مسبوق.

ولكن في الاونة الاخيرة، خفّت مرحلة الغزل التركي بعد ان لاحظت البرودة الاوروبية في هذا المجال، وحاولت انقرة استعمال ورقة النازحين السوريين دون ان تجد الحماس اللازم من اوروبا التي عرفت كيف تتعامل مع الضغط، الى ان وقعت محاولة الانقلاب الفاشل والتي اطاحت بالتعقّل التركي وفتحت الآفاق امام تغيير استراتيجي وسياسي وعسكري للعلاقات مع دول العالم.

انفصلت تركيا عن اميركا وبدأت بمعاداة اوروبا، وبعد ان كانت من المقربين من المانيا، تحولت الاخيرة الى عدوة غير معلنة، وها هي خطوط التواصل بين البلدين تمرّ بأسوأ فترة لها بسبب مشكلة حقوق الانسان واعتقال تركيا لالماني واتهامه ب​الارهاب​. على خط مواز، كانت تركيا تبني جسراً آخر مع ​روسيا​ و​ايران​ وقطر يعوّض لها ما يمكن ان تخسره اوروبياً، فيكون البديل الاعتماد على الثقل الاقليمي، وهي قراءة قد تثبت جدواها اذا ما بقيت الامور الخليجية على توترها، واذا ما تراجع النفوذ السعودي شيئاً فشيئاً. هذه الموجة التي قررت انقرة ان تركبها، ستعلو حتماً في الآتي من الايام، ولعل تواجدها العسكري في كل من سوريا وقطر، دليل على جدية هذا الخيار، وهي وان لم تقطع الحبل بشكل تام مع اوروبا، لكنها اوحت بما فيه الكفاية ان البديل جاهز ولا حرج عندها في اعتماده.

وانطلاقاً من القول الشهير "خسائر قوم عند قوم فوائد"، ستكون روسيا وايران من اكبر المستفيدين من الخلاف التركي-الاوروبي، فتجدان بالتالي ممراً اقتصادياً ونفطياً لهما لدول اوروبا والشرق الاوسط، فيما تتمتع موسكو بعدها بنفوذ سياسي اكبر واقوى في المنطقة بطبيعة الحال. اما ايران، فستكون اكثر من مرتاحة بوجود بلد صديق على الحدود، تتقاسم معه المساحات في كل من العراق وسوريا ما يعود عليها بالفائدة السياسية، كما ان الامر من شأنه ايضاً التخفيف من الصراع السنّي-الشيعي الذي يدور بين طهران وعدد من دول الخليج وفي مقدمها السعودية. وعلى جبهة اخرى، تستفيد تركيا من تثبيت رجليها في المنطقة ككل، وبفعل التنسيق العالي القائم بينها وروسيا وايران وقطر، ستلعب دوراً محورياً في المستقبل، وستكون احد اللاعبين المهمين في المنطقة بعد ان كانت تسعى منذ زمن الى لعب هذا الدور، وهو احد اسباب سعيها الى الانضمام الى اوروبا (اضافة الى اسباب اخرى اقتصادية ومالية وعسكرية)، وعندها سيكون امامها معضلة التوفيق بين هذه الصداقة والاستمرار في حلف شمال الاطلسي "الناتو" مع كل ما يعنيه ذلك من تضارب مع روسيا بالدرجة الاولى.

ويمكن القول ان تركيا باتت اليوم ابعد من اي وقت مضى عن ابواب الاتحاد الاوروبي، ولكنها في الوقت نفسه باتت اقرب من تدعيم الباب الخلفي واعتباره البديل الصالح عن خسارة اوروبا، ليكون ميزان الخسارة والربح غير ثابت بعد في انتظار جلاء صورة الوضع في سوريا والمنطقة بشكل شامل، واتضاح الموقف النهائي من الازمة الخليجية وكيفية انتهائها، وتحديد رقعة النفوذ التركي.

فهل اغلقت تركيا الباب كلياً امام انضمامها الى الاتحاد الاوروبي؟ المؤشرات كها تشير الى ذلك، ولكن يبقى اعلان الموقف الرسمي هو الحد الفاصل بين التوقعات واليقين، وهذا ما يدفع الى الامعان في مراقبة التحركات التركية بشقيها السياسي والعسكري، وتطور المواقف الدبلوماسية مع اوروبا واميركا من جهة، وروسيا وايران وقطر من جهة ثانية.