انتشرت في الساعات الماضية مذكّرة، يفترض أن تكون داخلية، توجّه فيها قيادة "​تيار المستقبل​" محازبيها لجهة "منع" مهاجمة إقرار ​سلسلة الرتب والرواتب​، وتذهب لحدّ الطلب منهم "التعميم" بأنّ هذه السلسلة ما كانت لتقرّ لولا الجهود التي بذلها رئيس الحكومة ​سعد الحريري​، "وبذلك يكون رجل الوفاء قد وفى بوعده"، على حدّ ما جاء حرفيًا في الوثيقة.

سريعًا، ثارت ثائرة من هم خارج "التيار الأزرق"، على اعتبار أنّ هذه الوثيقة فضحت ما قالوا أنّها "ديكتاتورية" ينتهجها "التيار" داخليًا، ورأى البعض أنّها تتنافى مع الروح الانفتاحية الجديدة التي يحاول الحريري بثّها منذ فترة، بل إنّ تسريبها يضرب كلّ الجهود التي يبذلها في هذا المضمار. فهل الأمر هو فعلاً على هذا النحو؟ وإذا افترضنا ذلك، هل يقتصر على "المستقبل" دون غيره من الأحزاب السياسية؟.

حالة تنظيميّة خاصة

في المبدأ، لا تبدو المذكّرة الصادرة عن قيادة "المستقبل" مدعاة استغرابٍ أو استهجانٍ، فهي، ولو سُرّبت، عن حسن نيّة أو عن خبثٍ لا فرق، وثيقةٌ داخليّة تتوجّه فيها أمانة سر مكتب الأمانة العامة للتيّار إلى المنسّقين العامّين للمنسّقيات والقطاعات والمصالح، المسؤولين التنظيمييّن، أعضاء هيئة الشّؤون التنظيميّة وجميع المنظّمين، حصرًا، ما يعني أنّها بمثابة "توجيهٍ" للمحازبين الملتزمين فقط دون المناصرين والمؤيّدين حول الموقف الذي يعبّر عن توجّه القيادة.

ومن هذا الباب بالتحديد، ينطلق "المستقبليّون" لتبرير الوثيقة المسرّبة، التي بدت أشبه بـ"أمر عمليّات"، باعتبار أنّ مثل هذه المذكّرات الداخلية هي من مسلّمات العمل التنظيمي، وهي تتّخذ أهمية مضاعفة في المواضيع الحسّاسة أو الخلافيّة، ومنها سلسلة الرتب والرواتب التي أثار إقرارها "بلبلة" في داخل "التيار الأزرق"، الذي ضاع محازبوه بين الموقف المؤيّد لها الذي عبّر عنه رئيس الحكومة سعد الحريري، والموقف المعارض الذي عبّر عنه رئيس "كتلة المستقبل" ​فؤاد السنيورة​، الذي حذّر ممّا أسماه بداية الانزلاق، علمًا أنّ هذا الموقف بدا منسجمًا في مكانٍ ما مع توجّه "المستقبل" إزاء السلسلة منذ بدء إثارتها إعلاميًا قبل أربع سنوات، وخصوصًا حين كان جناح السنيورة هو المسيطر داخل التيّار.

ولعلّ الخشية من "الشعبوية" التي قد ينجرّ إليها البعض، انطلاقاً من ​الضرائب​ التي تمّ إقرارها بالتوازي مع السلسلة، هي من العوامل التي دفعت "المستقبل" لأخذ الأمور إلى هذا المنحى، خصوصًا أنّ لا مصلحة له من قريبٍ أو من بعيد بإظهار أيّ انقسامٍ داخلي لا على السلسلة ولا على غيرها، وفق قاعدة "ما فيه يكفيه"، باعتبار أنّ الأزمات المتفرّعة التي يمرّ بها "المستقبل" منذ فترة والتي لم يتعافَ منها بعد تغنيه عن أيّ أزماتٍ مستجدّة، من دون أن ننسى التسريبات عمّا اصطلح على تسميته بلقاءات "مجموعة العشرين"، والتي لم تكن بدورها لصالح الحريري.

وإذا كان منطق توحيد الموقف من أيّ قضيّةٍ داخل أيّ حزب أو تيار سياسي من البديهيّات، إلا أنّه لا يمكن حصر المذكّرة المسرّبة في هذه الخانة، إذ إنّ "الأسلوب" المعتمَد فيها يدين قيادة "التيار"، ليس فقط من خلال "لهجة الفرض" المستخدَمة فيها، ولكن أيضًا من خلال بعض التعابير والمصطلحات التي تذهب إلى "تقديس الزعيم"، وهي آفة كان كثيرون يعتقدون أنّها باتت من الماضي.

واقعٌ مُرّ...

​​​​​​​تدعو وثيقة "المستقبل" المسرّبة إلى التغنّي برئيس الحكومة سعد الحريري بوصفه "رجل الوفاء". لا يبدو ذلك غريبًا لمن يراقب وسائل التواصل، التي يتناوب فيها مناصرو الأحزاب المختلفة على "تبجيل" قادتهم، بحيث تجتاح الأوصاف الشبيهة الساحات الافتراضية بشكلٍ شبه يومي، وتكاد تشمل جميع الفرقاء من دون استثناء، وبشكلٍ مبالَغٍ به إلى أبعد الحدود.

ومن هذه الزاوية، يمكن القول أنّ وثيقة "المستقبل" المسرّبة تعيد فتح نقاش قديم جديد عن الواقع المُرّ للحياة الحزبية في لبنان بشكل عام، واقع يفترض الإقرار، من باب توخّي الدقة والموضوعيّة، أنّه لا يقتصر على تيارٍ دون غيره، فكلّ الأحزاب في لبنان تدّعي الديمقراطية، لكنّ أياً منها لا يمارسها من الناحية العمليّة على أرض الواقع. ويكفي للدلالة على ذلك رؤية الكثير من "المحازبين"، من مختلف مكوّنات السلطة بلا استثناء، يدافعون عن الضرائب التي أقرّتها أحزابهم، على الرغم من أنّهم سيكونون من المتضرّرين منها في نهاية المطاف، شأنهم شأن سائر شرائح المجتمع.

إضافة إلى ذلك، لا يحتاج المرء للكثير من العناء لإدراك أنّ عشرات الوثائق تصدر بشكلٍ دائم داخل مختلف الأحزاب، لفرض سياسةٍ واحدةٍ على المحازبين، خصوصًا في زمنٍ أصبحت فيه بعض الأحزاب تضع خططاً لوسائل التواصل تمامًا كما تعدّ استراتيجيّاتها الإعلامية، لدرجةٍ باتت معها بعض "الهاشتاغات" على هذه الوسائل تخرج من غرف العمليات داخل بعض الأحزاب.

وفي هذا السياق، تبرز موجة "الفصل الجماعي" التي طالت العديد من التيّارات، بحيث باتت السياسة العامة، التي يدافع عنها المناصرون على وسائل التواصل بشكلٍ فاقعٍ، تقضي بوجوب الالتزام بما تقرّره القيادة من دون نقاشٍ أو تفكير، ومن يتجرّأ على الاعتراض يُفصَل تلقائياً، وهذا ما حصل مثلاً مع "​التيار الوطني الحر​"، حيث لوحظ وجود هجمةٍ شرسةٍ على الكثير من الناشطين القدامى في "التيار" بعدما تمّ فصلهم بسبب رأيٍ أو موقفٍ عبّروا عنه، وهو ما سهّل موجات الفصل، التي أشارت بعض المعلومات إلى أنّها طالت بعض الناشطات في الأيام القليلة الماضية على خلفية ارتباطهنّ بأحد القياديين المفصولين.

وكدليلٍ على الواقع "الديمقراطي" الذي تعيشه الأحزاب اللبنانية، يكفي الإطلالة على تركيبتها، لإدراك أنّ قادتها بالمجمل لا يزالون أنفسهم منذ أيام الحرب، ومن تقاعد منهم أو توفي، سلّم الدفة لأحد أقربائه، من الأبناء متى توافروا، كحالة سعد الحريري و​سامي الجميل​ مثلاً، أو الأصهرة، كحالة ​جبران باسيل​، أو يعدّ العدّة لذلك، واللائحة تطول من تيمور وليد جنبلاط إلى طوني ​سليمان فرنجية​، وغيرهما، ليبقى السؤال المركزيّ والجوهريّ، عمّا إذا كانت هذه الأحزاب تفتقر إلى أشخاص كفوئين يستحقّون التصدّي للمسؤولية من خارج الدائرة الضيّقة التي تمثّلها العائلة الصغيرة...

من نعمة إلى نقمة...

قد تكون الوثيقة المُسرّبة لـ"المستقبل" حُمّلت أكثر ممّا تحمل، وقد يكون مضمونها، بمُعزل عن بعض المصطلحات والتعابير غير المناسبة، هو فعلاً من "مسلّمات" العمل الحزبي المسؤول، وضرورات توحيد الموقف من أيّ قضية.

كلّ ذلك قد يكون منطقياً وجائزًا، ولكن غير المنطقي وغير الجائز أن يُقال أنّ مثل هذه الوثيقة فضحت "ديكتاتورية" هذا التيار أو ذاك، لأنّ هذه "الديكتاتورية" متأصّلة في النفوس بشكلٍ واضح، وهي التي خربت الحياة الحزبية في كثيرٍ من مظاهرها، فحوّلتها إلى تبعيةٍ عمياء ونقمة، في وقتٍ يفترض أن تكون نموذج تنوّع ونعمة بكلّ ما للكلمة من معنى...