الحرب بين ​اسرائيل​ و​القدس​ مفتوحة، والمعارك المندلعة بين الفلسطينيين والاسرائيليين حول ​المسجد الاقصى​ والصلاة فيه تنقطع حيناً وتنشط احياناً. صحيح ان السيطرة الميدانية والعسكرية هي في يد الاسرائيليين، ولكن الموقع الديني الذي يحمل رمزاً مهماً، لا يمكن التعاطي معه على انه منطقة كغيره من المناطق او مقراً كغيره من المقرات. ولعل ابلغ دليل على هذا القول يكمن في ما شهده المسجد الاقصى اخيراً من مواجهات أدّت الى اغلاقه من قبل الاسرائيليين واعلان اتخاذ تدابير امنية جديدة لاقت استهجاناً ورفضاً من قبل الفلسطينيين الذين قرروا الصلاة خارج المسجد الى ان يتراجع الاسرائيليون عن قرارهم ويزيلوا التدابير الجديدة. وبالفعل، تراجع الاسرائيليون، لتشكل القدس لهم هزيمة معنوية جديدة من دون عنف. اما الهزيمة الاهم فكانت سابقاً حين تراجع الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ عن نقل السفارة الاميركية الى القدس بعدما كان وعد بذلك وانعش آمال الاسرائيليين بحصول ما ارادوه منذ عقود من الزمن.

ولكن، ما الذي يجعل هذه المدينة تنتصر على قوة عسكرية تسيطر عليها وسلطة سياسية واقعية تفرض قراراتها؟ في الواقع، هناك الكثير من العوامل التي تؤدي الى هذه النتيجة، ولعل اهمها ان الفلسطينيين ينسون خلافاتهم وانقساماتهم حين يتعلق الامر بالعقيدة الدينية، ويلتفّون حول قضية واحدة وعندها يصبح الخطر على الاسرائيليين اكبر ولن يكون باستطاعة اي اجراءات حمايتهم لان من يواجهونه عندها لن يكون فقط من الاجنحة العسكرية، بل ايضاً من الناس العاديين (شيوخ ونساء واطفال وشبان غير منخرطين في الفصائل والمنظمات العسكرية)، وهذا بذاته يشكل مصدر قلق بالغ لمسؤولي الامن الاسرائيليين الذين سيكونون على مدار الساعة امام امتحان امني مفاجىء سيعكّر حتماً صفو ما يعيشونه من استقرار.

عامل آخر من شأنه ترجيح كفة القدس، فهي قضية دولية تدخلت فيها ​الامم المتحدة​ كما ان دولاً عربية -بعضها مرتبط باتفاقات مع اسرائيل- معنية بها مباشرة (على غرار ​الاردن​ الذي يتولى ادارة حرم المسجد الاقصى قانونياً)، كما ان ​المغرب​ يرأس حالياً لجنة القدس. وفي هذه الفترة تحديداً، فإن العلاقات بين الاردن واسرائيل يشوبها بعض التوتر على خلفية حادث السفارة الاسرائيلية في عمّان، وليس للسلطات الاسرائيلية اي مصلحة حالياً في زيادة التوتر عبر الاستمرار في اجراءاتها، كما ان انعكاسات اي موجة من العنف بسبب القدس والمسجد الاقصى، لن تكون ضمن بقعة جغرافية صغيرة محدودة بل ستطال دولاً عربية عديدة في طليعتها الاردن ومصر. اما العامل الدولي فيتمثل بالضغط السياسي والدبلوماسي على اسرائيل، الذي بدأ يتصاعد في الآونة الاخيرة مع توجيه نداءات اوروبية، كما ان التحرك التركي في هذا السياق كان من شأنه ان يطغى على تحرك بعض ​الدول العربية​ ما يشكّل احراجاً لها، ويضعف في المقابل الصورة التي تروّج لها اسرائيل حول احترامها للحريات والمعتقدات الدينية. ولا يمكن اغفال حقيقة ان اي توتر امني او عسكري في المنطقة حالياً سيؤثر بشكل سلبي على مسيرة القضاء على المنظمات والمجموعات الارهابية والتي شهدت مراحل متقدمة جداً في كل من ​العراق​ و​سوريا​ و​لبنان​، ولن تقبل القوى الكبرى ان يتم عرقلة هذه المسيرة تحت اي ذريعة فكيف اذا كان الامر يحمل طابعاً دينياً، وهذا بالتحديد ما يمكن تفسيره مع الفلسطينيين الذين امتنعوا عن التصعيد الامني والعسكري كما كان يحصل في السابق عند اتخاذ اسرائيل قرارات قاسية بحق المصلين الفلسطينيين.

معركة جديدة فازت فيها القدس على السلطات الاسرائيلية بطريقة سياسية ودبلوماسية وبعيداً عن مواجهات العنف، والجميع بات يعلم ان هذه المدينة لا يمكن ان تصبح عاصمة اسرائيل كما يرغب المسؤولون الاسرائيليون، وان التعرض لها بالقوة سيكون خطأ كبيراً قد لا يمكن اصلاحه بالسرعة اللازمة.