كما كان مُتوقّعًا، بعد بضعة أيّام من المعارك والهجمات في ​جرود عرسال​، فُتحت صفحة المُفاوضات مع الجماعات المُسلّحة، وتحديدًا مع "​جبهة النصرة​" الإرهابيّة للتوصّل إلى تفاهم يقضي بانسحاب مُسلّحيها إلى خارج المنطقة، وتحديدًا إلى الرقّة في العمق السوري، حيث تجري في هذه المرحلة إتصالات كثيفة لتحديد الشروط التنفيذيّة النهائيّة للإنسحاب، بالتزامن مع وضع اللمسات الأخيرة لسُبل التحرّك الميداني واللوجستي، برعاية دَوليّة وبُمشاركة ​الصليب الأحمر​ الدَولي. فلماذا توقّفت المعارك قبل إتمام الهدف؟ وهل ستنطلق معركة جديدة ضُدّ مُسلّحي تنظيم "داعش" الإرهابي في الأيّام المُقبلة؟.

لا شكّ أنّه من البداية كان من المعروف أنّ المُسلّحين في الجرود مُوزّعين على ثلاث جماعات أساسيّة، هي "جبهة النصرة" التي تُشكّل القوّة العسكريّة الأكبر في المنطقة، ثم "داعش" التي تُشكّل القوّة العسكرية الثانية من حيث القوة والفعاليّة في الجرود، ثم "​سرايا أهل الشام​" الأقلّ عددًا والأضعف تسليحًا. وهذه الأخيرة قد أخرجت نفسها سريعًا من المعركة، خاصة وأنّ "​حزب الله​" وافق على خروج هؤلاء من المعركة في مُقابل توجّههم إلى مخيّمات للنازحين في الجرود خارج سيطرة ​الجيش اللبناني​، وكذلك في مُقابل تعهّد بالمُساعدة لاحقًا في تسوية أوضاعهم مع القيادة السُوريّة. وقد إختارت قيادة "حزب الله" القضاء على "جبهة النصرة" بداية، وليس على "داعش" لأسباب عدّة، بعضها يتداخل مع أسباب تعليق العمليّات القتالية. ولجوجلة ما حصل في الأيّام القليلة الماضية، ولإعطاء فكرة عمّا سيحصل في الأيّام القليلة المقبلة، يُمكن تعداد ما يلي:

أوّلاً: منذ بداية الحرب السوريّة كان تركيز ​الجيش السوري​ والقوى الحليفة له في أغلبيّة المعارك، على "الجيش السوري الحُرّ" لأنّه كان يُشكّل بديلاً مُحتملاً للجيش السوري يُمكن أن يُبنى عليه. وحتى بعد القضاء على أغلبيّة وحدات "الجيش السوري الحُرّ" كانت المعارك تستهدف فصائل إسلاميّة بولاءات مُختلفة، مع تجنّب مُقاتلة تنظيم "داعش" إلا فيما نَدر، وذلك لأنّ وُجود "داعش" مطلوب لشَيطنة كل التحرّكات الشعبيّة ضُدّ النظام السوري، ولصبغ ما كان عبارة عن "ثورة شعبيّة" في بداية الأحداث في سوريا، بطابع الإجرام والإرهاب والتعصّب الأعمى الذي تُمثّله "داعش". ويُمكن القول إنّ هذه الخطة نجحت بشكل مُمتاز، ولا يزال تطبيقها قائمًا بكل فعاليّة حتى الأمس القريب، وآخر فُصولها تمثّل بتحييد "داعش"-أقلّه حتى إشعار آخر، عن ​معركة جرود عرسال​ و​جرود القلمون​.

ثانيًا: إنّ المعركة مع "جبهة النصرة" كانت مُتعمّدة لأنّها تأسر خمسة مُقاتلين من "حزب الله" وتحتجز عددًا من جثامين مُقاتليه أيضًا، وقد إنتهت إلى تفاهم يقضي بانتقال مُسلّحيها إلى مناطق خاضعة لسيطرة "الجبهة" في الداخل السوري، وتحديدًا إلى إدلب، وذلك عبر ​ريف حمص​ ثم عبر ​ريف حماه​، في مُقابل إطلاق أسرى "حزب الله" بحوزتها، وتسليم جثامين عائدة للحزب أيضًا، إضافة إلى تفكيك مخيّم "وادي حميّد" بالكامل.

ثالثًا: إنّ أيّ معركة مع تنظيم "داعش" لن تنته بسهولة بتسوية مُماثلة لما حصل مع "جبهة النصرة"، بسبب صُعوبة التواصل مع "داعش" وعدم وُجود "وسطاء" مُشتركين، وكذلك بسبب عدم وُجود أي منطقة قريبة في سوريا خاضعة لسيطرة "داعش"، حيث أنّ أقرب نقطة سيطرة لتنظيم "داعش" تقع في جيوب صغيرة في منطقة تدمر، ما يعني تحوّل أي هجوم إلى معركة شرسة تحت عنوان "يا قاتل يا مقتول"-كما يُقال باللغّة العامية، وهذا الأمر مُكلف جدًا من الناحية البشريّة، و"الحزب" يسعى لتجنّب هذا الخيار، على أمل أن يسلك تنظيم "داعش" نفس الطريق الذي سلكه تنظيم "جبهة النصرة"، أي أن يُوافق على تسوية تقضي بانسحابه.

رابعًا: إنّ المعركة مع تنظيم "داعش" مُرتبطة أيضًا بمصير العسكريّين اللبنانيّين المَخطوفين منذ آب 2014، ما يعني ضرورة التعامل بحذر مع هؤلاء الإرهابيّين حفاظًا على حياة العسكريّين، أو أقلّه للتمكّن من معرفة مصيرهم في حال حصل الأسوأ لهم-لا سمح الله.

خامسًا: المعركة مع تنظيم "داعش" ستُوكل على الأرجح للجيش اللبناني لأسباب مُختلفة، تبدأ بالهدف المُتمثّل بخدمة طلبات تسليحه، لجهة إظهار قُدراته القتاليّة الحقيقيّة ووجهة معاركه الرئيسة، وتمرّ بالتخلّص من هذا الخطر الحُدودي المُرابض قرب بلدات لبنانية حدُوديّة آمنة، خاصة ​القاع​ و​راس بعلبك​، وتصل إلى الإلتفاف على المُعارضة السياسيّة الداخلية لتورّط "حزب الله" في مهمّات أمنيّة هي من صلاحيّات الجيش وليس أي جهة أخرى.

ويُمكن القول في الخلاصة، إنّ الهدف الكبير المُتمثّل في إخراج كل المُسلّحين من دون إستثناء من المنطقة الجُرديّة، سيتحقّق في المُستقبل القريب، إن بالمعارك أو بالتفاوض. وبعد خروج مُسلّحي "سرايا أهل الشام" من المعركة، ومع توقّع إنتقال مُسلّحي "جبهة النصرة" إلى الداخل السوري في الساعات المُقبلة، ستكون الأنظار كلّها مُوجّهة نحو مُسلّحي تنظيم "داعش" الذين إن لم يُسارعوا إلى إيجاد تسوية لهم، مُستغلّين ورقة العسكريّين المخطوفين التي بحوزتهم، فإنّ المعركة العسكريّة ضُدّهم لن تكون بعيدة، علمًا أنّ الجيش اللبناني سيلعب الدور الرئيس فيها. وبالتالي مع تسوية أوضاع مُسلّحي "جبهة النصرة" إضافة إلى مُسلّحي "سرايا أهل الشام"، وتعزيز الجيش حُضوره العسكري في الجرود، ستكون مُهمّة القضاء على مُسلّحي "داعش" أولويّة الأولويّات في الأيّام والأسابيع القليلة المُقبلة، إلا في حال وافق التنظيم الإرهابي على مُبادلة حياة مُسلّحيه بانهاء ملفّ العسكريّين المُعتقلين لديه منذ ثلاث سنوات.