في خطابه الأخير، تحدّث الأمين العام لـ"​حزب الله​" السيد حسن نصرالله عن مجريات معركة ​جرود عرسال​، مهديًا "الانتصار" الذي تحقّق إلى "كل المسيحيين بكل طوائفهم ومذاهبهم وكل المسلمين بطوائفهم ومذاهبهم"، وقال: "نحن في معركة ​الإرهاب​ نقوم بواجبنا ولا نتوقع الشكر من أحد، وإذا جُلدنا ببعض السياط نحسبها عند الله".

رغم ذلك، ومع بدء العدّ العكسي لإنهاء المعركة، على الأقلّ في شقّها المتعلق بالوجود العسكري لـ"النصرة"، عاد الحديث، في الهمس والعلن، عن مخاوف من "توظيف" الحزب لما تحقّق و"استثماره" على صعيد الاستحقاقات الداخليّة، بل إنّ هذه الخشية كانت ذريعةً كافيةً لبعض أخصام الحزب، الذين تحمّسوا للمعركة في بادئ الأمر، لـ"فرملة" اندفاعتهم بعض الشيء في الفترة الأخيرة...

فائض قوة

مع انطلاق ​معركة جرود عرسال​ التي خاضها "حزب الله" في وجه "​جبهة النصرة​"، رُصِد التفافٌ لبناني عفويّ، سياسيّ وشعبيّ، إلى جانب الحزب، قد يكون غير مسبوقٍ، ربما منذ ​حرب تموز​ 2006، أو حتى قبلها، حتى أنّ الكثيرين من أخصام الحزب، ولا سيما على الساحة المسيحيّة، لم يتردّدوا في التضامن معه في حربه ضدّ إرهابيّي "النصرة"، لاعتبارهم أنّ القضاء على هؤلاء يشكّل مصلحة لجميع اللبنانيين، بمعزلٍ عن كلّ الاختلافات هنا أو هنالك. أكثر من ذلك، فإنّ من خرج على "شبه الإجماع" هذا، إما عبّر عن اعتراضاته على طريقة "رفع العتب"، وبتردّدٍ وخجل، وإما لاذ بالصمت إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا.

ولكن، مع تقدّم المعركة واقترابها من نهايتها، بدأ هذا الالتفاف يتراجع شيئًا فشيئًا، وإن ببطء، وعادت الهواجس القديمة الجديدة إلى الظهور على السطح، ولا سيما من أخصام الحزب التقليديين الذين راحوا يتساءلون عن "تداعيات" هذه المعركة عليهم، وعن "أجندة" الحزب وأهدافه من ورائها، وكيفية استثماره وتوظيفه ما تحقّق في السياسة الداخلية، رغم إقرار أغلبيّتهم بإيجابية ما تحقّق على المدى الطويل للبنان ككلّ، لجهة دحر إرهابيّين، كانوا يخططون لاستهداف لبنان، ويكفي ما حصل خلال مداهمات الجيش التي سبقت المعركة، وكشفه للانتحاريين، للدلالة على فداحة هذه المخططات.

وإذا كان أخصام "حزب الله" لا يعزلون المعركة التي خاضها الأخير عن أمر عمليات إقليمي ودولي ينفّذه الحزب، باعتبار أنّ مرجعيّته كانت ولا تزال خارج الحدود، كما يقول، فإنّهم يعتقدون أنّه، سواء صحّت هذه الفرضيّة أم لم تصحّ، فإنّ ما هو بديهي أنّ الإنجاز الذي تحقّق سيُشعِر الحزب بـ"فائض قوة" لن يتوانى عن توظيفه لفرض إرادته، سواء كان قد خطّط لذلك مسبقاً أم لم يفعل. وهم يخشون، انطلاقاً من ذلك، أن تصبح أحداث السابع من أيار الشهيرة، التي استخدم فيها الحزب سلاحه في الداخل لمرّة واحدةٍ وأخيرةٍ، هي القاعدة لا الاستثناء، مع ما لذلك من تداعياتٍ على الوضع العام في البلاد.

ولعلّ أكثر ما في الموضوع إثارةً للاهتمام، وفق مقاربة هؤلاء، أنّ الحزب تمكّن من تكريس معادلة الشعب والجيش والمقاومة رغمًا عن الجميع، خصوصًا أنّ اللبنانيين المتضرّرين من الإرهابيّين وجدوا أنفسهم يرحّبون بقتال الحزب، فإذا بهم، من حيث أرادوا أم لا، يضفون شرعيّة على سلاح الحزب وحربه ضدّ الإرهاب. أما اللافت وسط كلّ هذه المعمعة، فهو أنّ ذلك حصل بموافقةٍ ضمنيّةٍ حتى ممّن كانوا في الأمس القريب يخوضون المعارك "الدونكيشوتية" داخل ​مجلس الوزراء​ وخارجه لإلغاء هذه العبارة من متن البيان الوزاري ليس إلا.

أين الجديد؟

باختصار إذاً، فإنّ ما حقّقه "حزب الله" في جرود عرسال سيشكّل "انتصارًا" لجميع اللبنانيين، على الأقلّ في المدى المنظور، سواء منهم من وافقوا على انخراطه في القتال في الجرود أم من لم يفعلوا. إلا أنّ الخشية التي يعبّر عنها أخصام الحزب هي أنّ الأمور لن تنتهي عند هذا الحدّ، بل إنّ الأمر سيكون له تداعيات ستطالهم بشكلٍ مباشِر، حيث سيلجأ الحزب لترجمة ما حقّقه في الميدان في السياسة، وسيعتبر أنّه بات قادرًا على فرض مشيئته على الآخرين، ومن دون نقاش.

في المبدأ، قد تكون مثل هذه المخاوف مشروعة، خصوصًا أنّ معظم التجارب تؤكد أنّ الانتصارات العسكرية أينما تحقّقت يتمّ إلحاقها بما يشبه الانقلابات السياسية، التي تستفيد من انقلاب المعادلات رأسًا على عقب. إلا أنّ المفارقة، وسط ذلك، تكمن في أنّ كلّ هذه المخاوف والاتهامات التي يرتفع صداها اليوم هي أصلاً سابقة لمعركة الجرود، ولاحقة لها بطبيعة الحال، بالنظر إلى الانقسام الداخلي العمودي الاستراتيجي، الذي لا يُعتقَد أنّ أيّ معركة، مهما كبر أو صغر حجمها، قادرة على إنهائه أو حتى وضع حدٍ له.

وتكفي في هذا السياق العودة للاستحقاقات الداخلية الأساسية التي حصلت مؤخرًا، وموقف مختلف الأفرقاء منها، ولا سيما أولئك "المرتابين" منها اليوم، وهم الذين اعتبروا أنّ "حزب الله" فرض فيها إرادته في نهاية المطاف. وقد تكون ​الانتخابات الرئاسية​ على رأس القائمة، حيث يعترف الجميع أنّ الحزب كان الوحيد الذي لم يحد قيد أنملة عن الهدف الذي أعلنه منذ اليوم الأول، حين تبنّى ترشيح العماد ​ميشال عون​ للرئاسة. وعلى الرغم من رفض العديد من الأفرقاء الآخرين لهذا الترشيح في بادئ الأمر، إلا أنّهم تنازلوا في نهاية المطاف، وأتى العماد عون رئيسًا. ويسري الأمر نفسه على قانون الانتخاب، الذي أصرّ "حزب الله" على أن يستند إلى النظام النسبي، الأمر الذي كان بنظر بعض الأفرقاء من "سابع المستحيلات" في البداية، قبل أن يتنازلوا من جديد، ويوافقوا على الأمر في نهاية المطاف.

وإذا كان "حزب الله" ينفي أصلاً، في أدبيّاته، أن يكون في وارد فرض شيءٍ على أحدٍ في الداخل، وهو الذي يرفع دائمًا راية "التوافق" ويغلّبها على ما عداها، فإنّ هذه النماذج يستخدمها المقرّبون منه للقول أنّها، لو كانت فعلاً تعبّر عن نواياه، فهو لم يكن ليحتاج لمعركةٍ عسكريّةٍ يقدّم فيها التضحيات الجسام، ويخسر فيها عددًا من شبابه، طالما أنّه قادرٌ على فرض ما يريد، بمعركةٍ ومن دونها. إلا أنّ الأمر بالنسبة له مرتبطٌ ليس بعقيدةٍ يؤمن بها فحسب، بل بحربٍ شاملةٍ ضدّ الإرهاب، هو منخرطٌ بها، وما معركة جرود عرسال سوى جزء منها، وبالتالي فلا حسابات متوقّفة عليها حصرًا، كما يحاول البعض أن يوحي، عن حسن أو سوء نيّة.

هل يتّحد اللبنانيون؟

استبشر الكثيرون خيرًا في اليومين الأولين لمعركة جرود عرسال بمشهدٍ موحّدٍ قد يجمعهم بعد سنواتٍ طويلةٍ من الانقسامات والخلافات التي لا تنتهي.

وإذا كانت مثل هذه "الرهانات" قد تبدّدت، خصوصًا بعد كسر تيار "المستقبل" لصمته الأوليّ، وذهابه بعيدًا في "مزايداته"، لحدّ تشبيه "حزب الله" بالإرهابيين الذين يقاتلهم، فإنّ مفارقاتٍ أخرى لا تزال تشكّل "بقعة أمل"، من بينها مثلاً رفض رئيس حزب "​القوات اللبنانية​" ​سمير جعجع​ لـ"شيطنة" الحزب.

قد يكون موقف جعجع، كما موقف "المستقبل" أيضًا، مرتبطًا بحساباتٍ انتخابيةٍ ليس إلا، باعتبار أنّ الموسم الانتخابي قد انطلق باكراً، ليبقى السؤال: متى يتّحد اللبنانيون، فعلاً وبمعزلٍ عن أيّ حسابات أخرى؟ وهل يمكن أن يتّحدوا أصلاً؟.