فيما كان رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ يعلن رفضه إضفاء أيّ شرعيّة على مشاركة "​حزب الله​" في معركة ​جرود عرسال​، ويجدّد القول أنّ "​الجيش اللبناني​، وحده، هو الجهة المؤتمنة على سلامة الأمن الوطني"، كان رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ يعلن، خلال رعايته حفل تخريج ضباط الكليّة الحربية في العيد السنوي للجيش اللبناني، أنّ العملية العسكرية في الجرود شكّلت "نصراً للبنان".

ليس هذا التباين من قبل رئيسي الجمهورية والحكومة سوى غيض من فيض الاختلافات المتراكمة بين الجانبين، التي تبدأ بالقضايا الاستراتيجية والحيوية، كالموقف من "حزب الله"، ولا تنتهي عند الملفات العملية واللوجستية، ك​الانتخابات الفرعية​ مثلاً، ما يدفع للتساؤل بجدية عمّا إذا كانت هذه الاختلافات ستبقى محدودة ومضبوطة، أم أنّ تراكمها بهذا الشكل سيفسد في الودّ قضيّة، عاجلاً أم آجلاً...

معركة الجرد فرّقتهما؟

منذ تبنّي رئيس "​تيار المستقبل​" سعد الحريري ترشيح العماد ميشال عون ل​رئاسة الجمهورية​، والعلاقة بين الجانبين تشهد "شهر عسل"، كاد أن يلغي من الذاكرة تاريخًا طويلاً من الخلافات، سادت خلالها الحملات المتبادلة على وقع "​الإبراء المستحيل​"، ووصلت لحدّ اشتباك نوابهما في جلسات اللجان، وبلغت أوجها يوم أسقِطت ​حكومة الحريري​ بالضربة القاضية من قلب الرابية، وما تلاها من غربةٍ قسريةٍ للحريري، على وقع مقولة "وان واي تيكيت" الشهيرة التي خرج بها عون.

ولكن ما كان سائدًا بين "المستقبل" والحريري من جهة و"الوطني الحر" وعون من جهة ثانية أصبح من الماضي، بمجرّد موافقة الحريري على تسهيل وصول عون إلى قصر بعبدا تمهيدًا لوصوله هو بالتالي إلى ​السراي الحكومي​. عاد الحريري إلى البلاد بـ"مباركةٍ" ممّن كانوا يخاصمونه بالأمس القريب، ولم يعد الإبراء مستحيلاً، وباتت الملفّات الخلافية بين الجانبين، على كثرتها وحساسيّتها، هامشية، لا جدوى من إثارتها أصلاً.

نجحت هذه الاستراتيجية في تحقيق غايتها، والتغطية على كلّ الخلافات والمشاكل، فباتت العلاقة بين عون والحريري "مضرب مثل" ونموذجًا يُحتذى ويُقتدى به، بل ذهب البعض لحدّ القول أنّ مثل هذه العلاقة الممتازة لا سابق لها بين رئيسي جمهورية وحكومة في التاريخ الحديث. إلا أنّ ​معركة جرود عرسال​، التي نشبت الأسبوع الماضي ولعب "حزب الله" فيها دورًا جوهريًا وأساسيًا، لا سيما لجهة دحر إرهابيي "​جبهة النصرة​"، أعادت إظهار الفارق الكبير في مقاربة الأمور بين الجانبين.

وإذا كان كثيرون يرون أنّ ما قبل معركة جرود عرسال ليس كما بعدها على أكثر من مستوى، فإنّ علاقة "الوطني الحر" و"المستقبل" لا تشذّ عن ذلك، ليس فقط لأنّ ما كان مستوراً عاد للظهور، باعتبار أنّ "التيار" كان من أشدّ المتحمّسين لهذه المعركة والداعين إليها بعكس "المستقبل"، بل لأنّ "اهتزازاً حقيقيًا" رُصِد على خطّ هذه العلاقة، يكفي للدلالة عليه عنوانٌ استخدمه الإعلام "البرتقالي" تعليقًا على كلامٍ لنائبٍ "مستقبليّ" سابق شبّه فيه ممارسات "حزب الله" بـ"داعش" بالقول أنّ الأخير فقد رشده.

ولعلّ ذهاب كتلة "المستقبل"، بعد اجتماعها الأخير، إلى المطالبة بإحياء ​طاولة الحوار​ وإعادة البحث ب​الاستراتيجية الدفاعية​ يندرج في خانة "فضّ الاشتباك" والتقليل من وقع الخسائر، علمًا أنّ رئيس الجمهورية لا يبدو، حتى الساعة، من مؤيّدي هذا الطرح، وهو الذي رفض تلبية طلبات أخرى بإحياء طاولة الحوار، في عزّ الخلاف حول ​قانون الانتخاب​، لرفضه أن يكرّر ما سبقه إليه أسلافه، ولو في الشكل فقط.

التناغم فُقِد...

قد يقول قائل أنّ الحديث عن خلافٍ بين "المستقبل" و"الوطني الحر" في النظرة إلى "حزب الله" ومقاربة سلاحه ليس جديدًا، وأنّ كلّ من يقول أنّ الجانبين على تضادٍ كاملٍ في هذا الموضوع لم يخفّ وقعه في ظلّ التحالف المشترك بينهما لا يخترع البارود بطبيعة الحال.

لا شكّ أنّ هذا الأمر صحيح، ولكنّ الصحيح أيضًا أنّ "شبه تفاهم" أقرّ بين "المستقبل" و"الوطني الحر" على تحييد هذه الخلافات جانبًا،الأمر الذي لم يستطع الصمود أمام المجريات العسكرية في جرود عرسال، علمًا أنّ هناك من يتّهم "المستقبل" بأنّه وحده من غرّد خارج السرب، وعرّض التضامن الحكومي للخطر، وذلك لحساباتٍ سياسيّة وانتخابيّة بالدرجة الأولى.

ولكن أبعد من هذه القضية الاستراتيجية، التي لم يتفق عليها الجانبان، وهذا طبيعيّ وبديهيّ، فإنّ التناغم الذي أرسته "التسوية الرئاسية" التي أبرماها بدأ يُفقَد شيئًا فشيئًا، وخير دليلٍ على ذلك أنّ الاختلافات بين رئيسي الجمهورية والحكومة لم تعد محصورة بمثل هذه القضايا، التي لطالما اعتبراها ثانوية، بل إنّ قضايا الداخل باتت في صلب الخلاف. وعلى رأس هذه القضايا تتربّع الانتخابات الفرعية المفترض لملء المقاعد النيابية الشاغرة في كسروان وطرابلس، التي تشير كلّ المؤشّرات إلى تناقضٍ في النظرة إليها بينهما.

ففي حين يعمل رئيس الحكومة في السراء والضراء لـ"تطيير" هذه الانتخابات التي لن تفيده، خصوصًا في طرابلس، حيث يلاحقه شبح اللواء "المتمرّد" عليه ​أشرف ريفي​، من دون أن يجد "ممانعة" لمساره هذا من قبل أغلب الأفرقاء، بمن فيهم أولئك المتمسّكين عادةً بالقانون والمؤسسات، يصرّ رئيس الجمهورية على وجوب تطبيق الدستور وإجراء هذه الانتخابات دون تأخير، خصوصًا أنّ لها رمزيّة معيّنة متعلّقة بالمقعد الذي كان يشغله عن دائرة كسروان قبل الوصول لرئاسة الجمهورية. وبالتالي، ففي حين يخشى الحريري أن تفضح هذه الانتخابات ضعفه، يريد عون، ومن خلفه "التيار"، تحويلها لاستفتاءٍ في كسروان على خياراته، قد يُبنى على نتائجه في نسج التحالفات المقبلة.

وعلى الخطّ نفسه، يسير قانون ​الضرائب​ "العالق" عند رئيس الجمهورية، رغم أنّ رئيس الحكومة كان من أشدّ المدافعين عنه بموازاة ​سلسلة الرتب والرواتب​، وخاض المعارك الشرسة مع رئيس حزب "الكتائب" ​سامي الجميل​ بسببه، فإذا برئيس الجمهورية يستقبل الجميل، مؤيّدًا مواقفه بصورة ضمنية، بل إنّ الأخير خرج من اللقاء "مستبشرًا" بإمكانية ردّ الرئيس عون للقانون، ما يعفيه من مهمّة تأمين تواقيع عشرة نواب للطعن به كما يطمح.

الجرّة كُسِرت؟

لا يعترف "المستقبليّون" ولا "العونيّون" بأنّ شيئًا ما في الجرّة بينهم قد كُسِر، مع معركة جرود عرسال، أو قبلها، أو بعدها. برأيهم، الخلاف حول "حزب الله" وسلاحه طبيعيّ وليس جديدًا، والتباين في القضايا الداخلية يحصل أينما كان، ولا داعي لتضخيمه.

قد يكون ذلك صحيحًا ودقيقًا، خصوصًا أنّ لتقارب الجانبين حساباتٍ سياسية وانتخابية لم تتحقّق بعد، إلا أنّ الأكيد أنّ الأمور بدأت تخرج عن السيطرة، بدءًا من القاعدة الشعبية التي لا يبدو أنّها حُصّنت بما يكفي لمواجهة "العواصف" التي قد تتكاثر مع الوقت...