لطالما اعتُبرت الحدود مفتاح الدولة ونافذتها على العالم، حيث تكون باباً مفتوحاً على مصراعيه، سواء على المشاكل أو على الدعم، ولعل الحدود مع الدول المجاورة ومدى هشاشتها كانت وما زالت المركز الرئيس الذي تعتمد عليه أي مجموعة مسلحة داخل الدولة،

سواء كانت حركة مقاومة أو مجموعات تمرُّد أو سواها، لتحصل على الدعم الاستراتيجي الذي يبقيها على قيد الحياة، وذلك مرتبط إلى حد بعيد بوجود عمق استراتيجي لها في الدول المجاورة، تستمدّ منه القوة والقدرة على الصمود، وضمن هذا الإطار شكّلت الحدود اللبنانية - السورية طيلة فترة عمل المقاومة في جنوب لبنان، العمق الاستراتيجي الذي اعتمدت عليه للحصول على الدعم السوري والإيراني.

هذا في المبدأ العام، وفي التطبيق شكّلت الحدود السورية مع كل من العراق وتركيا والأردن ولبنان، الخاصرة الرخوة للدولة السورية منذ بداية الأزمة في العام 2011، حيث استطاعت المجموعات المسلحة في الداخل السوري الحصول على الدعم والسلاح والعتاد والرجال عبر هذه الحدود، خصوصاً الحدود التركية.

من هنا، وضمن استراتيجية استرجاع الحدود والسيطرة عليها، يتّجه الجيش السوري وحلفاؤه إلى الحدود مع الأردن والعراق، فالحدود العراقية - السورية هي حاجة مُلّحة لإبقاء التواصل الجغرافي والدعم الاستراتيجي من إيران حتى سورية فلبنان، وأما الحدود مع الأردن فللجيش السوري مصلحة أكيدة في الاسراع للسيطرة على تلك الحدود واقتطاع ما استطاع من المعابر، وهو ما تجلّى بإعلانه السيطرة على كل المعابر الحدودية مع الأردن في محافظة السويداء.

إذاً، يبدو أن الجيش السوري والحلفاء قد استفادوا من الخطة الروسية التي اعتمدت على إنشاء "مناطق تخفيف التوتر" للتفرُّغ لقتال "داعش" وتحرير أكبر قدر ممكن من الجغرافيا السورية، وعلى خطٍّ موازٍ التوجُّه نحو الحدود لفتح ثغرات أو السيطرة عليها بالكامل تجنُّباً لأي مشروع لعزل دمشق عن محيطها، وعلى خطٍّ ثالث، إقناع المسلحين في الداخل بضرورة عقد المصالحات وإلقاء السلاح والاستفادة من العفو الرئاسي، وهو أمر بات أسهل اليوم مع الإحباط الذي يعانيه المعارضون مما يعتبرونه "تخلّي الولايات المتحدة عنهم"، والبلبلة التي ولّدتها الأزمة الخليجية في صفوفهم.

وعلى خطّ لبنان، استفادت المجموعات المسلحة السورية، منذ بداية الأزمة، من هشاشة الحدود بين لبنان وسورية وتداخلها الجغرافي، فحصلوا على السلاح والعتاد وأقاموا معسكرات تدريب، واستجمعوا قواهم مرات عديدة، واستخدموا الأراضي اللبنانية لمهاجمة دمشق، أو العكس، حيث استغلّ الإرهابيون التفلُّت على الحدود بين البلدين لإرسال سيارات الموت إلى الداخل اللبناني وقتل الأبرياء، وفي الكثير من الأوقات حاول المسلحون استخدام الأراضي التي سيطروا عليها على الحدود للتوسُّع في الداخل اللبناني، ومحاولة احتلال عرسال وما حولها، وهو ما أفشله الجيش اللبناني عام 2014.

ومنذ عام 2013، وبالتحديد بعد معركة القصير وما تلاها من معارك في حمص وسقوط قلعة الحصن، بدأت الحدود اللبنانية تخرج من معادلة تقديم الدعم المفتوح للمجموعات المسلحة في سورية، وبقيت المخيمات في عرسال وجرودها خارج إطار تلك المعادلة؛ أي إخراج الحدود اللبنانية من وظيفتها في دعم المقاتلين السوريين، وذلك للحساسية المذهبية التي تطبع المنطقة، ولأن قسماً من اللبنانيين قام على منع إقفال هذا الملف تحت ستار "دعم عرسال" وما إلى هنالك، وذلك في محاولات مكشوفة لمنع سقوط آخر معقل للمسلحين السوريين على الحدود اللبنانية السورية.

واليوم، وبعد خروج "النصرة" و"سرايا أهل الشام"، وتوجُّه الجيش اللبناني للقضاء على "داعش" فيما تبقّى من الجرود، تكون قد انتهت وظيفة الحدود اللبنانية - السورية في دعم "الثورة" السورية، وسقطت ورقة إضافية من أوراق القوة في يد القوى المعادية للدولة السورية، وهو أمر سيؤثر على الميدان السوري، وعلى قدرة المسلحين في المناطق المجاورة للبنان على الصمود وتلقي الدعم، مما سيدفعهم إلى القبول بالمصالحات مع الجيش السوري.

أما في الداخل اللبناني، فإن خروج المسلحين يعني سقوط "الأوهام" التي صدّقها البعض بقدرة المخيمات السورية على تشكيل ورقة ضغط عسكرية على المقاومة في لبنان، كما أن خروج "النُّصرة" التي كانت تتلقى دعماً قطرياً، يفيد بطريقة غير مباشرة "تيار المستقبل"، إذ سيضعف السياسيون المحسوبون على قطر في الشارع السُّني، كما سيستفيد أهل عرسال الذين نافسهم السوريون على لقمة عيشهم وقطعوا مصدر رزقهم باحتلالهم الجرود ومنعوهم من الوصول إليها، والأهم أن سقوط فائض القوة العسكرية التي كان يشعر بها لاجئو عرسال، وبعض اللاجئين السوريين المتعاطفين مع الإرهابيين في بقية المناطق، سوف يدفعهم إما إلى الرحيل إلى سورية، أو العودة إلى احترام القوانين اللبنانية وعدم محاولة تخطّيها.