بات شبه محسومٍ أنّ الانتخابات الفرعية، التي كان يجب أن تحصل في كلّ من طرابلس وكسروان لملء ثلاثة مقاعد نيابية شاغرة، قد "طارت" بقرارٍ سياسيّ متّخَذ على أعلى المستويات، وإن كانت السلطة السياسية لا تزال عاجزة عن "تعليله"، ما يترجم إرباكًا واضحًا في مقاربة هذا الملف، بدليل المواعيد المتعدّدة التي ضربها وزير الداخلية ​نهاد المشنوق​ للحسم، وآخرها هذا الأسبوع، من دون أن يصدق، ولو لمرّة واحدة.

وإذا كان "سيناريو" تطيير هذه الانتخابات بدأ ينضج، في ظلّ معلومات تفيد بأنّ القضية لن تُطرَح على النقاش إلا بالتوازي مع اشتداد معركة ​جرود القاع​ و​رأس بعلبك​، فإنّ هذا "الاستسهال" في تطيير استحقاقات دستوريّة، في ظلّ العهد الجديد، كما في ظلّ سابقه، يفترض أن يدقّ جرس الإنذار، فماذا لو تكرّرت "مسرحية" التطيير في أيار المقبل، وهو ما بدأ أصلاً الكثيرون يرجّحون حصوله؟ وما الذي يمنع أن تكون مقاربة هذا الملف هي "البروفا"، بدل أن تكون الانتخابات الفرعية "بروفا" للانتخابات العامة، كما افترض البعض؟.

المَخرَج الضائع...

عشيّة جلسة ​مجلس الوزراء​ الأخيرة، أعلن وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق أنّه سيطرح موضوع الانتخابات الفرعيّة على طاولة مجلس الوزراء، ليتمّ حسم أمر إجرائها من عدمه بشكلٍ نهائيّ، خصوصًا أنّ الجلسة تزامنت مع موعد 17 آب الذي كان المشنوق نفسه قد حدّده "موعدًا أقصى" لإصدار مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، وإن لم يكن ملزمًا من الناحية القانونيّة.

انتهت الجلسة، من دون أن يظهر الخيط الأبيض من الأسود، أو أن يُعلَن أيّ شيءٍ رسميّ عن الموضوع، باستثناء "التسريبات" التي ليس مبالَغًا القول أنّ السلطة تقف وراء الكثير منها، على طريقة "جسّ النبض". صام وزير الداخلية عن الكلام، وانشغل اللبنانيون بكواليس الخلافات "التقنية" التي دارت بين الوزراء على أكثر من ملفّ، من الكهرباء إلى الاتصالات مرورًا بالزيارات إلى سوريا، ليعلن وزير الإعلام ​ملحم الرياشي​ "ترحيل" النقاش بالانتخابات إلى الجلسة المقبلة لمجلس الوزراء، كمن يؤكّد التسريبات القائلة أنّ الحكومة "العاجزة" عن تعليل قرارها المتّخذ بـ"تطيير" الانتخابات الفرعية، تسعى لاستنفاد المهل ليصبح هذا القرار "تحصيلاً حاصلاً".

عمومًا، فإنّ التأجيل الذي حصل هذا الأسبوع لم يكن الأول من نوعه، إذ إنّ "السيناريو" نفسه يتكرّر منذ نحو شهر، إن لم يكن أكثر، حيث كان وزير الداخلية يعلن في كلّ مرّة أنّه سيطرح الموضوع على طاولة الحكومة، فتنتهي جلساتها الأسبوعية من دون رصد أيّ أثرٍ لأيّ نقاشٍ حوله، وحين كان يُسأَل الوزراء عن الموضوع، كانوا يبتكرون حججًا من كلّ حدبٍ وصوب، كتبرير أحد الوزراء عدم طرح الموضوع، بأنّه "من المعيب" طرحه بغياب رئيس الجمهورية، إلا أنّ الرئيس حضر في الجلسة التالية وغاب الموضوع، دون أيّ تبريرٍ مقنعٍ.

"السيناريو" رُسِم!

ولكن، يبدو بحسب ما يتوافر من معطيات أنّ هذه "المسرحية"، التي زادت عن حدّها، أوشكت على النهاية "غير السعيدة"، التي قد تبصر النور الأسبوع المقبل، وإلا فالذي يليه، وذلك ضمن "سيناريو" تمّ رسمه بدقّة، و"شرطه" الأساسيّ أن يتزامن بحث الموضوع على طاولة مجلس الوزراء مع اشتداد حدّة المعارك التي يخوضها الجيش اللبناني في جرود القاع ورأس بعلبك. ولا شكّ أنّ هذه المعارك ستشكّل "الحجّة الأساسيّة" التي سيستند إليها أهل السلطة لتبرير عدم إجراء الانتخابات، لتشبه شكلاً ومضمونًا معزوفة "الظروف القاهرة" التي برّروا عبرها التمديد للمجلس النيابي مرّتين متتاليتين، وهي حجّة ستدعّم بكلامٍ لوزير الداخلية عن صعوبة نقل عناصر الجيش إلى كسروان وطرابلس لحماية مراكز الاقتراع، خصوصًا أنّ ما يُحكى عن حماوة المعركة سيتطلب تعزيز الحضور الأمني، ولا سيما في عاصمة الشمال.

وإلى جانب هذه الحُجّة، التي تنتظر السلطة استكمال عناصرها لوضعها على الطاولة، هناك حججٌ أخرى تنفع ولا تضرّ، أولها استنفاد المهل، باعتبار أنّه لن يعود بالإمكان إجراء الانتخابات في شهر أيلول، كما كان يُحكى سابقًا، كون مرسوم دعوة الهيئات الناخبة لم يوقّع بعد ليصدر في الجريدة الرسمية قبل شهرٍ من موعد الانتخابات، ما يعني أنّ الاستحقاق، إن تمّ، فسيتمّ في شهر تشرين الأول، الأمر الذي يعزّز ذرائع العوامل المناخية التي يمكن أن تتلطّى خلفها السلطة لتطيير الانتخابات، من دون أن ننسى أنّ المهلة الفاصلة عن الانتخابات ستكون قد تقلّصت لما يقترب من الأشهر الستّة، علمًا أنّ السلطة تمنّي النفس كذلك بأن يترجم الأساتذة "الإضراب" الذي يتوعّدون به بالإحجام عن المشاركة في تنظيم العملية الانتخابية، ما سيشكّل سبباً تنظيمياً لتأجيل الانتخابات.

وإذا كانت هذه الحُجَج، ولا سيما منها "استنفاد المهل"، من صنيعة السلطة نفسها، التي ماطلت إلى الحدّ الأقصى في القيام بواجباتها لجهة إجراء الانتخابات الفرعية، التي استحقّ موعدها منذ فترةٍ طويلة، فإنّ الخبراء يجمعون على أنّها كلّها ساقطة قانونًا، فالقانون ينصّ على وجوب إجراء الانتخابات الفرعية، طالما أنّ المهلة الفاصلة بين شغور أيّ مقعد والانتخابات العامة تتخطّى الستّة أشهر، ولو بيومٍ واحدٍ فقط. وحتى الحجج الأمنية لا تبدو مستقيمة، خصوصًا أنّ الانتخابات لن تتمّ سوى في دائرتين، ما يتطلب حضورًا أمنيًا محدودًا، لا يمكن ألا يكون مؤمّنًا، بمعزل عن مجريات المعركة على الحدود.

شكوكٌ جدّية...

أبعد من المسرحية المستمرة والقرار المتّخذ والمخرج الضائع حتى إشعارٍ آخر، تبقى مفارقةٌ لا يمكن القفز فوقها بأيّ شكلٍ من الأشكال، وهي مجرّد طرح مسألة إجراء الانتخابات الفرعيّة من عدمه على طاولة البحث والنقاش، وكأنّ الأمر يخضع للترف السياسي والحسابات الانتخابية، بل لرغبة هذا الفريق أو لمخاوف ذاك، علمًا أنّ من كان متحمّسًا لإجراء الانتخابات في بادئ الأمر "رضخ" في النهاية للأمر الواقع كرمى لعيون حلفائه، بدل أن يرضخ الجميع لسلطة القانون.

وفي هذا السياق، يمكن القول أنّ ما حصل يشكّل "سابقة" بكلّ ما للكلمة من معنى كرّستها ​وزارة الداخلية​ بجعل القرار بإجراء انتخابات ملزمة من الناحية القانونية "قراراً سياسياً"، وهو ما ردّده وزير الداخلية في أكثر من مرّة ومناسبة، ما يشكّل مخالفة دستورية وقانونية بكلّ ما للكلمة من معنى، إذ كان من واجب الوزير أن يوقّع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة كما يفرض عليه القانون، وأن يضع باقي الأفرقاء عند مسؤولياتهم، لا التمهيد لتطيير الانتخابات بكلّ بساطة، بذريعةٍ من هنا أو من هنالك.

ولعلّ "العِبرة" التي يفترض أخذها من كلّ ذلك أنّ "الشكوك" برغبة أحزاب السلطة بإجراء الانتخابات النيابية العامة في أيار المقبل لم تصبح مشروعة فحسب بل أكثر من جدية، ليس فقط لأنّ الحماسة للانتخابات التي ستفرّق أكثر ممّا ستجمع بموجب القانون الجديد تبدو مفقودة حتى إشعارٍ آخر، بل بكلّ بساطة، لأنّ الكثيرين تلوا فعل "الندامة" على إقرار ​قانون الانتخاب​ الجديد، الذي لا تزال قوى سياسية وازنة تقرّ بعجزها عن "استيعابه"، لتنسج التحالفات على أساسه. وبالتالي، فإنّ لا شيء يضمن عدم تكرار "مسرحية" تطيير "الفرعية" في أيار المقبل، علمًا أنّ التجربة أثبتت أنّ لا شيء يصعب على الأحزاب السياسية، التي لن تتردّد في خلق "الذرائع" لتنفيذ إراداتها إن لم تتوافر من تلقاء نفسها.

القانون وجهة نظر!

قبل فترة، خرج أحد قادة الأحزاب السياسية بخطابٍ طويلٍ كان عنوانه التمسّك بالقانون والمؤسسات، على قاعدة رفض ازدواجية السلاح، وحصرية قرار الحرب والسلم، وغير ذلك من العناوين البراقة. إلا أنّ هذه العناوين انتفت عندما وصل الأمر إلى الانتخابات الفرعية، التي رأى المسؤول المتمسّك بالقانون أنها ليست ضرورية، بل مكلفة، ويمكن الاستغناء عنها.

هكذا، أصبح القانون، من وجهة نظر المتمسّكين به قبل غيرهم، خاضعًا لازدواجية المقاربة، بل وجهة نظر، في دولةٍ لا تزال تصرّ على تسمية نفسها بأنّها "دولة القانون والمؤسسات"!.