ما قُضِيَ على جماعةٍ قبلَ أن تَقضيَ هي على ذاتِها. وما انهزَمت جماعـةٌ أمامَ عدوٍّ قبل أن تَنهزِمَ في ما بينَها. وما كَبُرت مأساةُ جماعةٍ قبلَ أن يَصغُـرَ القيِّمون عليها. تدخُل الجماعةُ حالةَ الانتحارِ المُغفَّل حين تَتخلّى عن قضيّتِها ومشروعِها وقيمِها ووِحدتِها.

وتَفقِد الجماعةُ روحَها وكرامتَها حين تَضعُ طموحاتِ قادتِها قبلَ قضيّتِها التاريخيّةِ ومصلحةِ أجيالِها. وتتراجعُ الجماعةُ حين تشكّكُ بمبرِّرِ وجودِها ودورِها وأحقيّةِ نضالِها، فتَستُر مقاومتَها وتَشتهي مقاومةَ غيرِها وقضيّتَه وتَلتحقُ بمشروعِه.

وتَشعُر الجماعةُ أنها تائهةٌ في وطنِها حين تَفتقِدُ لِذّةَ الكفاحِ في سبيلِ قضيّتِها التاريخيّة. وتُحِسّ الجماعةُ أنّها تافهةٌ، ولو امتلَكت رصيداً حضاريّاً، حين تَبتعدُ عن الثقافةِ وتقترِبُ من الانحطاطِ الفكريّ. هذه هي عوارضُ سقوطِ الجماعاتِ والإماراتِ والأمبراطوريّاتِ عبرَ العصور.

هذه حالُ الجماعةِ المسيحيّةِ في ​لبنان​َ اليوم، لاسيما المارونيّةُ تحديداً. ومع فارقِ الأحجام، المسيحيّون، اليومَ، يُشبِهون الرومانَ الذين اعتقدوا أنَّ أُمبراطوريَّتهم سرمديّةٌ، فسَمحوا لأنفسِهم بالانقلاباتِ والعبَث. وحين بدأت روما تتهاوى تدريجاً ظنّوا أنَّ الأمرَ مرحلةٌ عابرة، وأنَّ القُسطنطينيّةَ مَلاذٌ مؤقّتٌ، ومن أحشاءِ امرأةٍ سيطلَع رومانيٌّ عظيم، أو من المَنفى سيرجِعُ قائدٌ سابقٌ يُعيد مجدَ الأُمبراطوريّـة.

لكنَّ استمرارَ المكائدِ بين الطبقةِ الحاكمةِ حطَّم الأملَ وسَقطت أُمبراطوريّةُ الغرب، فأَرسَل «رومولوس أوغسطس»، آخرُ قياصرةِ روما، سنةَ 476 م. مع عسكريٍّ بربريٍّ شعاراتِ الأُمبراطوريّةِ ونقوشَ نقودِها إلى زِينون أُمبراطورِ الشرق.

منذ خمسٍ وثلاثينَ سنةً والجماعةُ المارونيّةُ تعرِّض وجودَها ودورَها وسلطتَها وحقوقَها للخطر، وتَروحُ تُطالب باستعادتِها من الآخرين بينما هي التي أضاعَتها وبدَّدتها في خِياراتٍ مغلوطةٍ وتحالفاتٍ مخطِئةٍ وفي حروبٍ انتقاميّةٍ. بين هذه الجماعةِ من يراهن، بعدُ، على المستقبلِ استناداً إلى مسارِ التاريخ.

لكنَّ هذا المسارَ ليس حالةً مجرَّدةً، بل هو مُحصِّلةُ تطوراتٍ وتحوّلاتٍ جغرافيّةٍ وديمغرافيّةٍ واقتصاديّةٍ وعسكريّة. ومجموعُ هذه العناصرِ يَميل حاليّاً ضِدَّ مصلحةِ المسيحيّين في لبنان ما لم يَنتفِضوا على ذاتِهم ويُحصِّنوا قِواهُم ويُنظّموا قوّاتِهم ويُعبِّئوا شبابَهم ويَستعيدوا المبادرةَ ويُطالبوا بحقِّ تقريرِ المصيرِ في إطارِ الشراكةِ على غرارِ سائرِ الجماعاتِ القَلِقةِ في الشرقِ الأوسط.

أصبحنا أقلَّ عدداً من الماضي ـ لِمَ النُكرانُ؟! ـ وما نزالُ نتصرّفُ كأنّنا الغالِبيّةُ. أصبحنا مهدَّدين ـ لِمَ المكابرةُ؟! ـ وما نزال نتحدّى كأنّنا آمِنون. وأصبحنا في دولةٍ مقسَّمةٍ ـ لِمَ الخجَلُ؟! ـ وما نزال نتصرّفُ كأنّنا في دولةٍ موَّحَدة. وأصبحنا أصحابَ سلطةٍ وهميّـةٍ ـ لِمَ الخِداعُ ــ وما نزالُ نؤمن بالرئيسِ القويِّ.

حالُ الجماعةِ المسيحيّةِ لا تَختلف عن حالِ لبنان، فلبنانُ أيضاً يعيش وضعَ روما في آخرِ أيّامِها حيث أَجمَع المؤرِّخون على أنَّ سببَ سقوطِها يعود إلى «فسادِ المؤسّساتِ الدستوريّةِ والسياسيّةِ والاقتصاديّةِ والعسكريّةِ والاجتماعيّةِ، وإلى عدمِ كفاءةِ الحكّامِ وسيطرةِ الأقاربِ والحاشيةِ وخُنوعِ القضاءِ وفُقدانِ الرؤيةِ الوطنيّةِ وتدهورِ حالةِ السكّان وانخفاضِ عددِهم» (Gibbon Edward في كتابه Decline and Fall of the Roman Empire سنةَ 1776). وشعورُ بعضِ المكوّناتِ اللبنانيّةِ بالقوّةِ هو الضعفُ بحدِّ ذاتِه لأنَّ كلَّ قـوّةٍ خارجَ الشرعيّةِ هي مشروعُ حربٍ عليها وعلى لبنانَ عاجلاً أو آجلاً، فيما لبنانُ هو المشروعُ السلميُّ الوحيدُ الذي نَشأ في الشرق.

لكنَّ حالَ الجماعةِ المسيحيّةِ، والمارونيّةِ امتيازاً، تَعنيني لأنَّ وجودَها الكيانيَّ ودورَها السياسيَّ محصوران في لبنان. إنْ سَقطَ سقطَت وإنْ سَقطت سَقط. منذُ خمسٍ وثلاثينَ سنةً تَفرَّغنا، نحن المسيحيّين، للدفاعِ عن هزائمِنا ولتبريرِ إذعانِنا.

انتقلنا من شعاراتِ العزّة: «العينُ تقاومُ المخرَز» و«الحقُّ يَهزِمُ القوّة» و»نحن قِدّيسو هذا الشرقِ وشياطينُه» إلى شعاراتِ القُنوعِ: «ليس بالإمكانِ أفضلُ ممّا كان» و«هذا أفضلُ الأسوأ» و«التسوياتُ فنُّ السياسة». هذه شعاراتٌ لا تُشبه تاريخَنا ولا تُشرِّفُ أجدادَنا ولا تَحمي أبناءَنا ولا تَفي حقَّ شهدائِنا. إنْ كان الصليبُ شعارَنا، فهو ليس قدَرَنا. القيامةُ قدرنُا.

عمرُ البطريركيّةِ المارونيّةِ أقدمُ من عمرِ مملكةِ ​فرنسا​: الأولى نَشأت سنةَ 686 بينما الثانيةُ سنةَ 987 لمّا تولّى الحكمَ هوغ كابيه Hugues Capet، فكان أوّلَ ملِكٍ فرنسيٍّ يَتكلّم الفرنسيّة. وهذا يَعني أنَّ الموارنةَ تكلّموا الفرنسيّةَ قبلَ ملوكِ فرنسا.

وبالتالي، لا يملِكُ أيُّ فردٍ أو فريقٍ سياسيٍّ مسيحيٍّ حقَّ التصرّفِ بتراثِ هذا الشعبِ ونضالِه المستمر منذ 1600 سنةٍ. ولا يملِك أحدٌ وَكالةً لمقايضةِ إنجازاتِ هذا الشعبِ وتخديرِ قضيّتِه وتفويتِ لحظةِ تقريرِ مصيرِه مرّةً أخرى.

صحيحٌ أنَّ المارونيّةَ السياسيّةَ عرَفت، بعدَ نشوءِ دولةِ لبنانَ الكبير، إحاديّةً وثنائيّةً وثلاثيّةً، لكنَّ القراراتِ المصيريّةَ كانت تُتَّخذُ في إطارِ تشاورٍ واسعٍ وخَلَواتٍ طويلةٍ ولقاءاتٍ وطنيّةٍ جامِعة، فجَلس قادةُ أحزابِنا ومناطقِنا وكنائسِنا وأركانُ جامعاتِنا وعسكريّون ومؤرِّخون وفلاسِفةٌ وقرّروا الخِياراتِ التاريخيّةَ السياسيّةَ والعسكريّة.

أثيرُ هذا الموضوعَ لأنَّ القرارَ المسيحيَّ مصادَرٌ ومعطَّلٌ ومُغيَّبٌ، ولأنَّ هَّمَ السياسيّين أنْ يُحسِّنوا صورتَهم عِوضَ تحسينِ صورةِ الوطن، ولأن التنافسَ بينَهم على المناصبِ غَلَب التمسُّكَ بالثوابت، ولأنَّ القضيّـةَ اللبنانيّةَ غائبةٌ عن جدولِ اهتمامِ مرجِعيّاتنا وأحزابِنا.

لقد بَنينا لبنانَ بالصمودِ والمقاومةِ على أسُسِ القيمِ الروحيّةِ والوطنيّة. لم نَحصَل على لبنانَ الكبيرِ هديّةً، بل تتويجاً لكفاحٍ طويل. ولم نبنِ لبنانَ ضِدَّ أحدٍ إنّما من أجلِ جماعاتِه كلِّها. وخِلافاً لما نعتقدُ، ليس لبنانُ مشروعَ حريّةٍ فقط، بل مشروعُ وِحدةٍ بين المسيحيّين والمسلمين. كان مُتاحاً للمسيحيّين أنْ يَنعموا بالحريّةِ في إطارِ لبنانَ الجَبل مع إخوانِهم ​الدروز​، لكنّهم فضَّلوا الحريَّةَ موازيةً للشَراكةِ.

في لبنان، إن نظرتَ إلى الكنائسِ تفكِّر بالجوامع، وإن تَطلّعتَ إلى الجوامعِ تَحِنُّ إلى الكنائس. وإن رأيتَ مُسلِماً تستعيدُ ​الإنجيل​ («أَحبِبْ قريبَك كنفسِك»)، وإن شاهدتَ مسيحيّاً ذَكرتَ القرآن («ولَتَجِدَنَّ أَقرَبَـهم مَودّةً للّذين آمنوا، الّذين قالوا إنّا نَصارى»). يبقى أن تَشعُرَ بالتاريخِ وتَطمئنَّ إلى المستقبلِ إن لمحتَ زعيماً.

إنَّ الخَشيةَ على مصيرِ لبنان يُحتِّم على القادةِ اللبنانيّين، وبخاصّةٍ الموارنةُ، تعليقَ طموحاتِهم السياسيّـةِ والانتخابيّة، والارتفاعَ إلى مستوى التاريخِ لإنقاذِ هذه الأمّةِ من السقوط. عناصرُ السقوطِ مجتمعةٌ، لكنَّ طاقاتِ الصمودِ متوافِرةٌ أيضاً.