قام عن مائدة الفطور بعد أن رعى حفلاً، وجلس إلى مائدة الغذاء ليرعى آخر، ثُمَّ ارتاح راعياً إلى مائدة العشاء. وما بين المائدة والمائدة وقتٌ للراحة، وما بين الرعاية والرعاية آلآف الساعات المُكرّسةِ لخدمة ​إنجيل​ الخلاص تذهبُ هَدراً وسُدىً على موائد التملُّقِ والمُداهنة، من دون أن تأتي بشيء لراعيها سوى التُخمةِ والمواد الدُهنيّة والتكرّش، وللرعيّة التي تُشاهد على مَضَض، سِوى الفراغ. فمَنْ أكل على مائدتين اختنق فكيف بالذي يأكُلُ على ثلاثٍ وأربع!...

قد أبدو للوهلة الأولى أُصوليّاً في طروحاتي التي هي، بقول البعض، خاصّةُ المطبخ الداخلي وفي الإشارة إليها ما يُسَبِّبُ الشكّ والعثار. ولكنّني على هذا القَول غير موافق، لأنَّ الأمور التي تحدثُ في العَلَن تُصبِحُ مُلك العَلَن، والتشكيك والعثار يحدثان إنّ استمرَّ هذا الواقع المؤسف، وإن لم نسعَ سَعي الأنبياء للتبكيت على أمورٍ تُوضعَ في خانة واجبات الرُّعاة والخدمة المقدسة، وهي ليست كذلك، وفي خانة الروحانيات، والأخيرة براءٌ منها.

والحقيقة هي أنَّ المسيح لم يُرسلنا إلى العالم لنرعى المآدب وولائم الشرف والإحتفالات الدنيويّة التي تلتهمُ المجال الروحيّ بِنَهمٍ لا يشبع وتُغيّر طبيعته، وتنتهي غالبيّتها بَحَرَد المدعوين، وبشبه غيبوبَةٍ عن الزمان والمكان وبابتساماتٍ صفراء. لَم يمنعنا يسوع عن الموائد، ولكنه لَم يُرسِلنا إليها، بل أرسلنا لنحمِلَ إنجيل الخلاص. وبالطبع، لم يطلُب يسوع من تلاميذه أن يكونوا ضامني حفلات ولا وكلاء سفريات ولا منظّمي رحلات ولا مدراء نوادي... كما يُريدهُم الناس، ولا أنبياء كذبة يُسمِعون الناس ما يَطيب لهُم، بل طلب منهم أن يكونوا كما يُريدُهم هوَ، أنبياء يشهدون للحقّ، وحَمَلَةَ "إنجيل السلام"(أف614).

إنجيل السلام هو إنجيل الحقيقة التي تُخَلّص وتَلِدُ من جديد أبناءً وبناتاً لله الآب. إنجيل المُصالحة بين الله والإنسان وبين الإنسان وأخيه الإنسان. وهذه المُصالَحة تمَّت بفعل ذبيحة المسيح على الصليب، حيثُ افتدانا بدَمٍ ثمين، فصِرنا قريبين بعد أن كُنّا بَعيدين(أف213)، وأهل بيتِ الله بعد أن كُنّا غُرباء(أف219)، وأبناء النعمة بعد أن كُنّا أبناء الغضب، أمواتاً بخطايانا وشرورنا(أف25).

عندما تَختَصر ألوان الطعام وأضواء الاحتفالات خدمة الرُّعاة، وعندما تُسَطَّر سيرة حياتهم بجلوسٍ وقيام، واستقبالٍ ووَداع، قولوا: "لقد اقتربت النهاية"!.