نادراً ما ترى إجماعاً على شخصية تتبوأ زمام القيادة، لكن هذا الإجماع كان على القيادي اللواء محمّد سعد الرازم (فتحي البحرية) "أبو جهاد".. "كنز" أسرار الرئيس الشهيد ​ياسر عرفات​ وكاتمها.

لا يمكن أنْ تخلوَ جلسة أو حديث يتم التطرّق فيه إلى الرئيس "أبو عمار" أو العمليات الفدائية والنضال ال​فلسطين​ي الصادق، إلا ويكون إسم "فتحي البحرية" في صلبه.

"أبو جهاد" المولود في ​القدس​ (13 تشرين الثاني 1947) قبل أيام من صدور القرار 181 بتقسيم الأراضي الفلسطينية، كان شاهداً على مسيرة الثورة الفلسطينية، ويعرف أدق تفاصيلها، فهو كبير مرافقي الرئيس "أبو عمّار"، منذ أنْ التحق به في العام 1967، بعدما دخل متنكّراً إلى ​الضفة الغربية​ إثر احتلالها من العدو الإسرائيلي، وسقوط القدس، أوّل عاصمة عربية تحت رجس الإحتلال.

انضمَّ إلى صفوف حركة "فتح" مع مجموعة الفدائيين الأوائل، وشارك في "معركة الكرامة" وتحقيق النصر على المحتل الإسرائيلي (21 آذار 1968)، ليكون أوّل نصر يُحقّق ضد العدو الإسرائيلي.

لم يغيّره أو يبدّله مركز أو مهمة، بل أرسى مدرسة نضالية، تتّصف بالصدق، يُدين له بها كل مَنْ ناضل ضد العدو الصهيوني، أو قام بثورات في بلدانه ضد المتسلّطين والطغاة.

قاد عمليات عسكرية ضد العدو داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، قبل أنْ يصبح البحر ميدانه الأبرز، فأذاق المحتل ألماً، وكبّده خسائر فادحة، فأصبح هدفاً يتعقّبه لكنّه فشل بالوصول إليه.

لم يكن اختياره لإسمه الحركي عبثياً، "فتحي البحرية" وكنيته "أبو جهاد".

- فتحي: نسبة إلى حركة "فتح" التي بقي مدافعاً عن قرارها المستقل حتى الرمق الأخير.

- البحرية: لأنّه اختار البحر لتنفيذ العمليات الفدائية ضد الإحتلال الإسرائيلي، وأصبح قائد بحرية الثورة الفلسطينية.

- "أبو جهاد": اقتداءً بالقائد "أبو جهاد الوزير"، على الرغم من أنّه كبير مرافقي الرئيس "أبو عمّار"، لأنّه كان يعتبرهما واحداً.

سمعتُ كثيراً عن "فتحي البحرية" من سفير فلسطين لدى ​لبنان​ ​أشرف دبور​، الذي كان يعتبره بمثابة والده، وكانت له معه محطة مفصلية في العام 1980 في مسيرة حياته النضالية، ليكون أحد أفراد السكرتارية الخاصة بالرئيس "أبو عمّار" حتى استشهاده في العام 2004.

وخلال المؤتمر العام السادس لحركة "فتح" الذي عُقِدَ في الضفة الغربية (آب 2009)، لفت انتباهي أنّ هناك فائزين اثنين من غير الأعضاء الحاضرين للمؤتمر، هما: مروان البرغوثي لعضوية اللجنة المركزية، وهو المعتقل في سجون الإحتلال (15 نيسان 2001)، ومحمّد الرازم "فتحي البحرية" عضو في المجلس الثوري، لأنّه مطلوب للإحتلال.

ولاحقاً تعرّفتُ عن قرب إلى "أبو جهاد"، خاصة خلال زيارتي إلى دبي في (كانون الأوّل العام 2013)، واللقاءات المطوّلة مع الراحل، بمشاركة الصديق علي يونس، أو في ​بيروت​ بضيافة السفير أشرف دبور.

الراحل يختزن كنزاً من الأسرار الكثيرة والهامة التي يعرفها، فهو كان لا يفارق الرئيس "أبو عمّار"، في اجتماعاته ولقاءاته وجولاته، حتى أنّه إذا كنتَ تلمحه في مكان، تعلم بأنّ "الختيار" متواجد فيه.

وقد كان بُعد بصيرته مساهماً في إنقاذ حياة الرئيس أكثر من مرّة.

في مثل هذه الأيام من العام 1982، كان "أبو عمّار" يغادر ​مرفأ بيروت​ مع خروج الثورة الفلسطينية، وإن كانت المحطة عدداً من ​الدول العربية​، لكن كانت وجهته إلى فلسطين.

وبعد توقيع "اتفاق ​أوسلو​" (13 أيلول 1993)، وعودة الرئيس عرفات إلى غزّة (1 تموز 1994)، عاد معه وبقي البحر يستهويه، مع إعداد العدّة لانتفاضة ثانية تلي "انتفاضة الحجارة" (7 كانون الأوّل 1987)، فكانت "انتفاضة الأقصى" (28 أيلول 2000).

وكانت مهمة "فتحي البحرية" تأمين السلاح إلى غزّة، فكانت الباخرة "كارين A"، التي أوقفتها فرقة كوماندوس إسرائيلية في المياه الدولية في ​البحر الأحمر​، وهي قادمة من موانئ ​السودان​، ومحمّلة بالأسلحة، حيث اقتيدت إلى إيلات (7 كانون الثاني 2002).

كانت الباخرة محمّلة بـ50 طناً من صواريخ الكاتيوشا، مدافع هاون، قاذفات "آر.بي.جي" مع القذائف، بنادق قنّاصة، عبوات وأسلحة وذخائر وعتاد.

أوقف قبطان الباخرة الذي تبيّن أنّه العقيد في ​الشرطة الفلسطينية​ عمر عكاوي، واعترف بأنّ وجهتها كانت غزّة، حيث ستكون قبل الوصول إليها سفن صغيرة تنقل الأسلحة.

وُجّهت الاتهامات إلى المسؤول المالي في رئاسة السلطة الفلسطينية اللواء فؤاد حجازي الشوبكي بتمويل العملية، فجرى لاحقاً توقيفه من قِبل السلطة الفلسطينية في "سجن ​أريحا​" برقابة بريطانية - أميركية (أيّار 2002)، قبل أنْ تقتحم قوّات الإحتلال الإسرائيلي السجن وتعتقله (​14 آذار​ 2006)، حيث ما زال في سجون الإحتلال.

أما مَنْ أمّن شحنة الأسلحة، فلم يكن إلا صديقه "فتحي البحرية" الذي طلب منه الرئيس "أبو عمّار" المغادرة السريعة للأراضي الفلسطينية، خشية اعتقاله من قِبل قوّات الإحتلال، لأنّ المطلوب إثبات أنّ "أبو عمّار" مَنْ يقف خلف باخرة الأسلحة، وبالتالي وراء ​الإرهاب​ وتمويله، وهو ما وجّهه إليه لاحقاً رئيس وزراء حكومة الإحتلال ارييل ​شارون​، فكانت الباخرة "القشة التي قصمت ظهر البعير"، فاتُخِذَ قرار بتصفية "أبو عمّار"، ولم تكن هذه الباخرة الأولى التي تنقل أسلحة إلى غزة.

برحيل المناضل "فتحي البحرية" يفتقد العمل النضالي فتحاوياً، وفدائياً، وفلسطينياً وعربياً أصيلاً، سيبقى مثالاً للقائد النموذج، الذي امتاز بشجاعته وإصراره وإقدامه وفدائه وتضحيته، مع تميّزه بدماثة الخلق، والحكمة والحنكة، وتحليه بالصبر وبعد البصيرة.

يرحل في دولة ​الإمارات العربية المتحدة​ التي احتضنته ليوارى الثرى في ​الأردن​، الشاهدة على نضاله، على أمل أن تنقل رفاته إلى القدس بعد التحرير.