عندما مدّد للمجلس النيابي اللبناني لنفسه في العام 2013، ثم في العام 2015، اتخذ العامل الأمني ذريعة للتمديد الذي سلك طريقه التنفيذي رغم الاعتراضات الجدية أو الرياء في الاعتراض، ولكن قبل الجميع بالأمر الواقع وتعاملوا مع المجلس النيابي الممدّد لنفسه لولاية كاملة كما لو أنه مجلس منتخب وفقاً للأصول.

وفي المرة الثالثة عندما اعتُمد التمديد لسنة إضافية تقريباً تمّ تغيير الذريعة من هاجس أمني الى مقتضيات إدارية أطلق على التمديد بموجبها اسم التمديد التقني وهي تسمية لا أساس لها في التشريع في عالم القانون الدستوري

أو الإداري أو أيّ قانون آخر، لكن ابتدعت في لبنان وسلك التمديد بموجبها مسلكه الواقعي وكلفت الأجهزة المختصة وبشكل خاص وزارة الداخلية التحضير للانتخابات النيابية بموجب قانون انتخاب «مطوّر» تضمّن جديداً في مسائل ثلاث، أولها نظام الانتخاب حيث اعتمد النسبي بدلاً من الأكثري، وثانيها المستند الثبوتي للاقتراع حيث اعتمدت البطاقة الممغنطة، وثالثها منح حق الاقتراع للمغتربين في الخارج، حيث اعتمد اقتراعهم دون اضطرارهم للحضور في لبنان لممارسة حقهم السياسي الدستوري، وكانت هذه المسائل الجديدة هي الذريعة التي تتطلب وقتاً لتحضيرات وآلية لتنفيذ والتطبيق ما برّر تأخير الانتخابات لسنة كاملة أعطيت للأجهزة المختصة من أجل التكيّف مع الصيغة الجديدة لقانون الانتخاب، والأهمّ فيها كلها هو مسألة البطاقة الممغنطة التي تستلزم الوقت للإعداد.

وفي التطبيق وبعد مضيّ أقلّ من أربعة أشهر من المدّة المحدّدة أظهرت مواقف وزارة الداخلية أنها عاجزة عن تحضير البطاقة الممغنطة ونسفت بالتالي الذريعة الأساسية لـ«التمديد التقني»، وهنا كان على المعنيين بالشأن أن يلتزموا بروح القانون الذي أتاح التمديد الثالث وأن يسارعوا الى إجراء انتخابات قبل الموعد المحدّد، لأنّ سقوط السبب يلزم بسقوط النتيجة. وهذا هو المنطق الذي عمل به رئيس مجلس النواب عندما طرح تقديم موعد الانتخابات، طالما أنّ البطاقة الممغنطة لن يُعمل بها في الوقت المحدّد لها، وكان على النواب والطبقة السياسية المعنية كافة أن تتلقف طرح رئيس مجلس النواب وتسير به، لأنّ فيه ما يرجح مصداقيتها عندما ادّعت أنّ التمديد كان تقنياً، وبذلك تقدّم الإثبات على أنها كانت صادقة عندما ربطت التمديد بهذه البطاقة.

لكن كان مفاجئاً ان تظهر اعتراضات على طرح رئيس مجلس النواب، لا بل أكثر من ذلك كان مستغرباً ان يروّج لإشاعات شتى تقود في نتيجتها ليس لرفض تقديم موعد الانتخابات، فحسب كما طرح الرئيس نبيه بري، بل وإلى اللجوء إلى تمديد رابع بحجج وذرائع شتى، منها كما يبدو معلناً أو ما يخجل أحياناً أصحابه من الجهر به صراحة أو إيحاء، ولكنها كلها أسباب وذرائع نراها واهية مهما حاول أصحابها تلميعها وترويجها لتسويقها كالتالي:

1 ـ أول الحجج تلك ما يتصل بالبطاقة الممغنطة والقول إنّ مهلة السنة إذا لم تكن كافية لإعدادها فلتتعطَ الوزارة سنة أو ستة أشهر إضافية حتى تنجزها. وردّنا على هؤلاء نخرجه من حال الواقع وما جرى فيه، حيث استهلكت وزارة الداخلية 4 أشهر ولم تفعل شيئاً ولم تُساءل او تُحاسب على تخلّفها. وإذا كرّرت التسويف فلتُحاسب أيضاً لأنّ بيدها ما تتحلل به من المسؤولية الكثير الكثير من الأسباب المالية والعملية والإدارية وهذه الأسباب ستبقى قائمة.

وبالنتيجة فإنْ أخذ بهذا الرأي وتمّ التمديد الرابع ربطاً بالبطاقة تلك فقد نصل إلى العام 2020 ومجلس التمديد قائم يمنح نفسه شرعية مطعون فيها.

وبالمناسبة لا نرى انّ استبدال الممغنطة ببطاقة الهوية البيومترية سيشكل حلاً، وهنا نذكّر أنه رغم مضيّ 18 سنة على اعتماد بطاقة الهوية الجديدة فإنّ أكثر من 15 من اللبنانيين لا يزالون بلا هوية جديدة، فكيف سيكون الحال مع البيومترية التي يعتبر إعدادها أكثر تعقيداً من الحالية؟

2 ـ ثانية حجج دعاة التأجيل او التسويف متصلة بالأمن، وجاءت إشاعات سفارات الناتو بقيادة أميركية لتعزز موقف هؤلاء. وهنا نقول انّ الأمن مستويان… مستوى استراتيجي عام ومستوى عملاني موضعي، وعندما يتمّ الحديث عن أمن بلد ما، فإنّ الفكر يتجه أساساً الى المستوى الأول الذي يتصل بأمن الجماعة العامة والمناطق الواسعة والاستقرار العام. وهذا الأمر متوفر في لبنان بشكل معتبر وتمّ الارتقاء به والتأكيد عليه بعد ان خرج لبنان من تهديد الإرهاب الآتي من الجرود، كما عطل التهديد «الإسرائيلي» بمقتضى معادلة الردع الاستراتيجي التي فرضتها منظومة القوة اللبنانية «جيش وشعب ومقاومة».

وبالمناسبة نقول إنّ بعض من أطلق الإشاعات الأمنية في لبنان لم يكن يتصرف بمنطق أمني حقيقي، بل كان يطلق مواقف سياسية بلباس أمني غايتها الانتقام من لبنان الذي امتلك شجاعة رفض الإملاء الأميركي عليه، عندما طلب منه الإحجام عن معركة الجرود او تأخيرها، وقد شاءت أميركا ان تقول للبنان بطريقتها المخابراتية انّ طرد داعش والنصرة من الجرود لا يعني تقدّماً في الموضوع الأمني، لا بل لن يحقق الأمن للبنان كما يشتهي.

ونحن نرى وبمنطق العلم والخبرة أنه لو كان هناك صدق وغيرة أجنبية حقيقية على مصلحة لبنان الأمنية، لكانت المعالجة تمّت بصيغة أخرى. وهنا يحضرنا السؤال التالي نطرحه على أميركا وبريطانيا معها: لماذا لم يصدر تحذير أمني منهما قبل عمليات الأنفاق في مترو لندن الأسبوع الماضي؟ وهل أنتم تراقبون لبنان وتهتمّون بأمنه أكثر من مراقبتكم للأمن في لندن؟

إذن نؤكد أنّ في المستوى الاستراتيجي العام للأمن في لبنان، نحن في مستوى عالٍ جداً، والأمن عندنا ممسوك بجدية وبفعالية، لكن في المستوى العملاني الموضعي يبقى الأمن في مدّ وجزر وفقاً للظروف، وهذا معروف في البلدان كلها. وإذا عُمل به في الانتخابات، فإننا نصل الى واقع لا نجد فيه دولة واحدة قادرة على إجراء الانتخابات، وبالمقارنة فإنّ لبنان يعتبر أفضل دولة في المنطقة في هذا الإطار، ودون ان ندخل في تسمية فإنّ دولاً كثيرة نجد فيها مستوى الأمن العملاني الموضعي لا بل والاستراتيجي أيضاً أدنى بكثير من مستواه في لبنان، ورغم ذلك تجري انتخابات دورية منتظمة.

وفي خلاصة الأمر نرى أنّ الذريعة الأمنية ساقطة على أصلها ولا يمكن الأخذ بها مهما كانت أساليب الترويج لها من قبل أصحاب المصالح.

3 ـ أما الذريعة الحقيقية التي نعتقد أنها وراء التسويف في تحضير البطاقة الممغنطة، ولاحقاً التسويف في تحضير البطاقة البيومترية، وبالتالي التسويف في إجراء الانتخابات في موعدها المحدّد بعد التمديد الثالث والموعد المقترح أقرب منه، هي عدم جهوزية بعض الفئات لإجراء الانتخابات، سواء الجهوز المالي أو الجهوز الشعبي أو الجهوز التنظيمي أو الجهوز السياسي، لأنّ البعض الذي تصوّر انّ نظام النسبية الجديد سيعطيه القدرة الفائقة على الإمساك بالقرار السياسي اللبناني، ولكن وجد نفسه بعد الحسابات الدقيقة أنه في حال وهم ستفضحه صناديق الاقتراع. وسبب آخر لا بدّ من الإشارة اليه وهو أنّ البعض الذي بنى مجداً سياسياً زائفاً أقامه على معاداة المقاومة ومحور المقاومة يجد نفسه اليوم مأزوماً مرذولاً في مشهد انتصارات هذا المحور التي تغيّر وجه المنطقة وتسقط الأوهام وأصحابها.

وعلى هذا الأساس يبدو من الملحّ التمسك باقتراح رئيس مجلس النواب. وهو منطقي ودستوري بالمعايير كلها. وإجراء الانتخابات بأسرع وقت ممكن والإحجام عن طروحات عقيمة وإشاعات كاذبة للمماطلة والتسويف خدمة لمصالح فئوية وأجنبية والإضرار بمصلحة لبنان العليا.