تشرّع الكرة الأرضيّة نوافذها في عصر الفضاء فتتجاور الشعوب وتتقارب الثقافات واللغات والعادات كما تتزاحم وتتقاتل لكنّ اللافت في هذا المشهد العالمي الجميل والبائس أنّ مجموعات أو أقليّات صغيرة تتأبّط التاريخ وتحتمي بأحلامها القديمة الموروثة في الإستقلاليّة والإنفصال في جغرافية صغيرة مؤطّرة تأكيداً للخصوصيات الإتنيّة والثقافية والفولكلورية وربّما الدينية والإقتصادية.

نحن هنا في ​أربيل​ حيث التوهّج الحارق لحلم ​الأكراد​ يتجدّد في الإنفصال عن ​العراق​ عبر الإصرار على الإستفتاء بالرغم من تجاوز دستور 2005 ونصائح ​أميركا​ والأمم المتّحدة وتوسّط السعودية والكثير من دول العالم بالإعراض عن الأمر أوالتأجيل خوفاً من تجديد الدماء فوق دماء جروحٍ عربية لم تيبس بعد. نحن مجدّداً في جغرافية الألف ثورة والألف تحسّر نحاول تفهّم القنبلة المحشوّة بالبلقنة أو الجاهزة للتفجير. تصل المخاطر الى حدودها القصوى بعدما ملّ العرب والعالم لملمة الركام وتعداد الضحايا وجنحوا نحو الإستقرار.

بالمعنى الحضاري أو الثقافي، تبرز أفكار الخصوصيّة والتمايز والإختلاف قوارب هشّة تتمسّك بها الأقليّات، وتحميها سفن السياسات والمصالح الكبرى لأهداف إقتصادية وسياسيّة وعسكرية تحرّك إقتصاد العالم. ونعثر في العالم على موسوعات خاصّة للأقليات بعضها معزّز ومحمي دولياً و بعضها مقموع ومضطهد ينشد العدالة المستحيلة لأنّ أعباءها وظروفها صعبة وثقيلة . للأولى زعيمها وأناشيدها ولغاتها ومدارسها ووسائل إعلامها، وللأخرى قهرها أو صراعها الدائم المتأرجح بين ضفة وأخرى أو بين الحقوق والواجبات في المجتمعات التي تضمّها فلا تنصهر فيها ولا تنفصل عنها، بل تتحفّز أبداً توقاً للإنفصال.

تقودنا هذه الجماعات المتزايدة من مذابح "​الربيع العربي​" الى ضرورة التمييز الحذر بين الأقليات الملتصقة ببقع ديمغرافية معيّنة ومحدّدة من ناحية والمهجّرين أو النازحين القسريين أو المجموعات الرخوة غير الثابتة في الجغرافيا من ناحية أخرى، والتي غالباً ما تتحرك تبعاً لوطأة المناوشات والحروب الدائمة الإشتعال أو للتطورات والحاجات الإقتصادية للدول البعيدة، وهو ما ينطبق على ​فلسطين​يي الشتات أو الفيتناميين والكومبوديين أو الإيرلنديين أو السكندينافيين والإلمان والسلاف والإيطاليين وال​لبنان​يين أو السوريين والعراقيين والليبيين في لبنان و​الأردن​ و​تركيا​ و​أوروبا​ والمسلمين وغيرهم في أوروبا وأميركا وأنحاء العالم بعد مآزم ال2011.

في ضوء هذه الأفكار، أضع، بإحترام، خطّين باللون الأحمر تحت مسألة لا الأكراد وحسب بل مستقبل المسيحيين في الشرق بمختلف مذاهبهم وتطلّعاتهم وكذلك الإيزيديين و​الدروز​ والشيعة...إلخ. وأشدّ على القلم عند ذكر الأكراد اليوم في العراق حيث أراهم يحفّزون يقظة الأقليّات في المحيط، وكأنّهم يردمون بدمائهم ومكابرتهم مجدّداً الحفر الكبرى بين ​سوريا​ و​إيران​ والعراق وخصوصاً تركيا التي تدير وجهها شطر ​موسكو​ والشرق، ويقرّبون الدول الكبرى في تقاسم المصالح ويبعثون الشهيّة مجدّداً في مصانع السلاح ومخازنه.

أين توصلنا مغامرات الحضارة بالطموحات الخطيرة للإقليّات في الأمكنة والأزمنة الصعبة؟

صحيح أنّ العراق وبلاد الشام كانت المنطقة الأولى الأكثر التهاباً فوق خريطة العالم منذ ال2003، ومنها وفيها كنا نجد تقاطر الكثير من الدول الإقليمية والعالمية، ومنها راحت تستيقظ أحلام الأقليات مجدداً وتبعث الأفكار والخرائط التقسيمية القديمة لكن التحديق في هذه الخرائط وما تنطوي عليه من أفكار لم تنضج بعد، يرى أوهام الأقليات مكبّرة إذ تخرج بخصوصياتها وثقافاتها وبدويلات مرسومة على الورق لم تتحقّق أساساً منذ سايكس بيكو وهي قطعاً لن تتحقّق فوق يابسة العرب ولو نجح إستفتاء الأكراد.

أقارب معضلة الأكراد مجدّداً مستذكراً المحاولات العديدة المستمرّة التي آلت الى الفشل والخيبة المتكرّرة أو المذابح المشابهة سواء في لبنان أو مصر أو سورية والعراق و​الجزائر​ و​المغرب​ وغيرها. نقارب الأكراد وتحت العين كوارث ​السودان​ أوّلاً، ردود الفعل الجارحة التي أحترمها وأفهمها ثانياً إذ إنصبّت بعدما نشرت في نصّاً في هذه الصفحة بالذات عن"دولةٍ بين قوسين" أو دراسة مطوّلة في "الدفاع الوطني"، بعنوان الأكراد "الدولة المستحيلة". نكتب عرباً ونغطّ عجزنا في محبرة فلسطين ويهزّنا أيّ نقطة دمٍ تنداح في هذه البقعة العظيمة من العالم.

إذا سلّمنا مع الأكراد بأنّهم النموذج الأكثر تعبيراً وقدماً عن مشقّة تاريخ الأقليّات، فإنّنا لا نرى إلاّ عبراً لعدم إستنفار الأقليّات في وجه الأكثريات، أوتحريض الأكثريات لتفتيتها عبر سحق الأقليّات أو طردها من مواطنها وثقافاتها وتهديم طموحاتها، وخصوصاً في أزمنة بدأت بحرق الياسمين في تونس ودارت نحو العراق وسورية مصر و​ليبيا​ و​اليمن​ والسعودية والجزائر و​البحرين​ ، وتحت عناوين وظروف متنوّعة تصبّ كلّها في مصلحتين: سلبيّة ومكلفة تهجّر الأقليات وتهدّم ​الإسلام​ بالمقاتلين المستودين وبالنبش المرعب في تاريخ الصراعات القديمة بين المذاهب والدول في مرجعياتهم المتعدّدة، وإيجابيّة عالية تصبّ كما العادة في مصلحة "إسرائيل" التي تتطهّر من ذنوب التاريخ منذ 1948 وصولاً الى يهودية الدولة، كما تتغذّى من أعباء العرب والمسلمين في تنافرهم وصراعاتهم معها وفي ما بينهم.

ما زال الملف الكردي يعني أراض مغمّسة ب​النفط​ والماء ومجموعات من الدول العظمى والإقليمية تتحرّك كلها في دوائر ومحيطات تشبه رقع البازل حيث الضغوط والصراعات المخيفة بين الغرب والشرق، ولهذا يتوسّع المحور بشكل عام ليطاول بلاداً مثل سوريا وإيران وتركيا والعراق و​الولايات المتحدة​ و​روسيا​ و​بريطانيا​ وغيرها.

لا جديد تحت شمس المصاطب الكردية سوى رتابة أحلام الأكراد في الجغرافيا، إذ يظهرون بقعاً من أصلب الناس المتشابهين والمضحّين بدمائهم وأجيالهم والمتنافرين من شمالي ​طهران​ إلى حوض البحر الأبيض المتوسط توقظهم وتجمعهم وعود خبيثة هي ممكنة التحقيق على الدوام بالنسبة لإندفاعاتهم وصدقيتهم، لكنها صعبة التحقيق فوق هذه الجغرافيا المتشظية أو المشتتة والمشتعلة، مع التنبيه أنّ ما يسهل تحقيقه في عقل الشيطان الإسرائيلي أو لندن أو واشنطن أو في أية عاصمة بعيدة، يبدو عسيراً رسمه فوق أرض المذابح والمصائب، كما يرشدنا التاريخ.

الى متى سيتأبّط الأكراد أسطورة الهزيمة المتمثّلة بسيزيف؟

يدفعون بصخرتهم أبداً إلى فوق لكنها تتدحرج دائماً إلى تحت نحو إستحالة تعويض هزائمهم والمزيد من الإستغراق في الأوحال السياسية والخيبة، ظناً منهم أنهم ذاهبون نحو المستقبل الموعود الذي صار ماضياً متكرّراً له صمت المتاحف.

ماذا لو شدّ العصب الى العصب والجرح الى الجرح والمستقبل بصيغة الأقليّات والأكثريات الى المستقبل بصيغة المفرد في إستئناف الحضارة بدلاً من إنتحارها؟