يحار كثيرون في طريقة تعامل الرئيس ​سعد الحريري​ مع المطالب الأميركية – السعودية الجديدة في لبنان. البعض يعتقد أن الرجل مغلوب على أمره، فلا هو قادر على رفضها، ولا هو قادر على تلبيتها. بينما يرى آخرون أنه يحاول التفلّت منها في انتظار فرصة لطرحها على جدول الأعمال. لكن قلة تهتم بالتدقيق في أن الحريري قد يكون غير راغب في تلبية هذه المطالب، قبل أن يكون غير قادر على تحقيقها.

أمور كثيرة تغيرت في لبنان هذه السنة، والفصل الأخير من العام سيحمل المزيد من المتغيرات ربطاً بالتطورات الجارية من حولنا. ورغم أن محور المقاومة يسجل تقدماً كبيراً في سوريا والعراق، فإن ذلك لا يعني أن المحور الآخر سيستسلم للأمر الواقع ويقبل به كما هو. والتجارب تدلنا على عنجهية الولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى غباء ومكابرة الدول العربية الحليفة لهما. كذلك، فإن التجارب نفسها تدل على قوى كثيرة في لبنان والمنطقة تتمسك بالإنكار، ولا تتوقف عن السعي إلى استجلاب المزيد من العنف. وإن كانت الوقائع الصلبة القائمة اليوم، تقول إن هؤلاء لا يملكون اليوم سوى الدعاء والصلوات ليتدخل الله ويصطفل ببقية عباده. لكن لنحصر النقاش في حالة رئيس الحكومة.

ولندقق في أحواله.

يعاني الرجل من ضائقة مالية غير عادية تتقدم أولويتها على ضائقته الشعبية. والحديث، هنا، ليس عمّا يمكنه صرفه على نفسه وعائلته والمقربين. إذ يقول متصلون بالعائلة إن مجموع ما بقي في أيديهم، على شكل حصص وسيولة وعقارات، يساوي تقريباً نحو عشرة مليارات دولار أميركي، وإن لسعد نصيبه الجيد منها. لكن مشكلته تتعلق بتوقف الواردات. فقد توقفت غالبية الأعمال في السعودية وخارجها. وإذا كان لإخوته أعمالهم الرابحة أو الخاسرة، فإنه يواجه مشكلة أنه بات المسؤول – شبه الوحيد – عن تأمين التمويل السياسي للتيار الذي ورثه عن والده، وأنه في كل يوم تتراجع مساهمة الآخرين، سواء في الأنشطة الاجتماعية أو الإعلامية أو حتى في دعم الأذرع القريبة جداً من العائلة في بيروت وخارجها. وهو أمر ينعكس بقوة على أبناء العائلة الأكبر، من العمين شفيق وبهية، إلى الصهر المنكوب نزار دلول. حتى إن نساء العائلة بتن يعتذرن من الأقارب لعدم تمكنهن من مدّهم بالعون المالي كما كان الأمر سابقاً. فكيف والحديث يتحول شماتة إن أشرنا إلى الديون الصغيرة المتراكمة لمصلحة شريحة كبيرة من الناس، من مصارف عالمية وإقليمية ومحلية، إلى شركات كبرى في البلاد وخارجها، وصولاً إلى بائعي الحلوى والأجبان والألبان ومحطات المحروقات، ومستخدمي المؤسسات التي لا تزال عاملة إلى اليوم، ولو أن معظمها لا فائدة منه.

كل ذلك يعني أن مشكلة العائلة تتفاقم. لكن المسؤولية ملقاة على عاتق سعد بصورة خاصة. فهو من يقف في الواجهة، وهو من سُمي وريثاً أول يتقدم على الآخرين، وهو العنوان الرئيسي الذي يتوجه إليه الدائنون، كذلك هو من يملك الموقع والعلاقات التي تتيح له الوصول إلى أماكن يفترض أن تتيح تحريك العجلة من جديد. لكنه لا ينجح في كل جولاته ولقاءاته واتصالاته في تحقيق أكثر من إعادة جدولة لديونه. وهو يضطر إلى التخلي عن مواقع نفوذ داخل مؤسسات كبيرة، إما من طريق الخروج منها بعد بيع حصصه، أو عبر ترك أمر إدارتها إلى من يقدر على الإنفاق، أو عبر بيع مشاريعها بالباطن لمصلحة شركات لا تعاني السيولة التي يعانيها هو. كذلك يعاني الحريري من جحود بعض الأقربين، إذ كلما وجد من يغطي بعض النفقات عنه في لبنان، تراه مضطراً إلى أن يبادلها عقارات وأسهما يتنازل عنها لمصلحة هؤلاء. ويبدو أن الرجل مثل والده، لا يلجأ إلى «تمنين» الناس بدعم سابق لهم.

هذه الأسباب والظروف لعبت دوراً في قرار الحريري تقديم ما يوصف بالتنازلات السياسية لقاء عودته إلى رئاسة الحكومة. إلا أن ما قدّمه لا يعني انكساراً كبيراً له كما يقول له منتقدوه من الأقربين أو الأبعدين. ذلك أن طبيعة التسوية التي رافقت عودته إلى الحكم، تفرض عليه أو على غيره التعامل بواقعية مع الوقائع. ولو حصلت التسوية مع غيره، لربما كان بمقدور الفريق المنتصر بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، الحصول على أثمان أكبر.

ثم هناك أسباب أخرى. فالحريري يعي، ولو من دون قول، حجم المتغيرات التي حصلت في المنطقة. وهو لا يحتاج إلى من يشرح له حقيقة وضع قيادة السعودية وتركيا والأردن ومصر داخلياً أو على صعيد الإقليم. كذلك يعرف الكثير من تفاصيل الخلافات التي تعصف بالفريق الإقليمي والدولي الداعم لفريقه. وهو يعرف أيضاً، وبصورة جيدة، حجم التراجع الأميركي والأوروبي في العالم والمنطقة. كذلك يعرف أكثر أن القوى الحليفة له في المنطقة العربية، من لبنان إلى سوريا إلى العراق إلى بقية دول المنطقة، ليس فيها من فائض قدرة توزعه على أحد. وعندما يلتقي كل صنوف 14 آذار في لبنان والمنطقة، تراهم في حالة مثيرة للشفقة، أو على ما يقول المثل الشعبي: «المستوي يقصد المهتري» طالباً الدعم.

أكثر من ذلك، يقول الحريري، وهو محق، إن وضعه في لبنان أفضل بكثير من أوضاع كل رفاقه في كل المنطقة العربية. وشرعيته القائمة فعلياً هنا، فعالة ونشطة، فيما لا يقدر معارضو الحكومات في سوريا والعراق على فعل أي شيء، وإنّ من يقف منهم في السلطة، سواء في مصر أو الأردن أو فلسطين أو بعض دول الخليج، يعيش أسوأ مراحل حكمه. أما الحريري فلا يزال شريكاً فعلياً في كل القرارات الأساسية أو التفصيلية التي تصدر عن الحكومة في لبنان. حتى موضوع الحرب والسلم، الذي يستخدم ضد حزب الله، لا يتجاهل أبداً الحسابات المتعلقة بكون الحريري هو رئيس الحكومة في لبنان.

هذه الوضعية تسمح للحريري بأن يدرس جيداً كل ما يطلب منه أميركياً أو سعودياً. وهو يجيد التمييز بين ما هو للاستهلاك وما هو جدي. وفي الحالتين، لم يعد الحريري يخفي ملاحظاته على مواقف وطلبات يعرف أنها غير واقعية. كذلك فإنه لطالما نجح في لفت انتباه الأميركيين والسعوديين، ولو بطرق غير مباشرة، إلى أن ما يحصلون عليه في لبنان اليوم قد يتبخر إن هم قرروا المواجهة الشاملة مع الطرف الآخر. كما أمكن الحريري مراراً تحذير الأميركيين والسعوديين من أن ما يفكرون فيه من عقوبات ضد لبنان، بغية تركيع حزب الله، إنما هي عقوبات ستصيب حلفاء أميركا والسعودية بالقدر نفسه الذي يصيب جمهور حزب الله، وليس الحزب نفسه، الذي يبقى قادراً على المبادرة بما يضعف النفوذ الأميركي والسعودي في لبنان. حتى إن الحريري، المنضوي في حلقة خصوم النظام السوري، في لبنان والمنطقة، قد يكون الوحيد القادر من خلال موقعه في رئاسة الحكومة، وكطرف في التسوية القائمة في لبنان، أن يفتح الطرقات الخلفية التي تسمح بمصالحات تحت مسميات كثيرة، وفي مقدمها أدوار دول المنطقة في عملية إعادة إعمار سوريا.

الحريري اليوم ليس مكبلاً بقيود تجعله ينتظر قرار الوصي في كل خطوة يريد القيام بها. بل هو يعرف أيضاً أن بمقدوره القيام بأدوار يحتاج إليها الحلفاء مع أطراف في لبنان والمنطقة والعالم، مستفيداً من هامشه الناتج من موقعه في المعادلة اللبنانية. وهذا هامش يتيح له انتقاء ما يناسبه من مطالب أميركا والسعودية. وهو هنا يميز بين المواقف السياسية والإعلامية التي يرفع فيها – هو ــــ السقف إلى أعلى من قامتي بن سلمان وبن ترامب، وبين الخطوات العملية التي يبتعد عنها إدراكاً منه بعدم وجود مصلحة بأن يستدرجه إلى مواجهات تكشفه محلياً وإقليمياً.

لكن على الحريري الإقرار أمام حلفائه من الأميركيين والأوروبيين والخليجيين بأن عناصر قوته ليست مستمدة كلها من موقعه هو. لا بل إن قسماً غير قليل منها يعود إلى طبيعة الخصم الذي يواجهه في لبنان والمنطقة. وإذا كان الحريري لا يقدر، أو حتى لا يرغب بالحديث في العلن عن الأمر، إلا أنه يقدر على أن يقول أمام أعضاء فريقه وأمام حلفائه، إن حزب الله خصم ذكي وغير متهور، وإن الحزب يعرف تمييز الحقيقي من الخطوات والوهمي منها. ولولا ذلك، لكان الحريري في أحسن أحواله يرافق رياض حجاب وإياد علاوي إلى جلسة نبيذ وسيكار في أحد فنادق العالم الحر!