لم يكن خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب عادياً أو في إطار السياق الكلاسيكي لكلمات الرؤساء الأميركيّين السابقين من على منبر الأمم المتحدة. كان خطاباً صادماً، فجّاً، خاطَب في جانب منه الشارع الأميركي حيث يعيش أزمته الخانقة، وفي جانب آخر التّحديات الصعبة التي تُواجهها بلاده على المستوى الدولي منذ أن بدأت ولايته الرئاسية، وفي جانب ثالث الإشارة الى ما يجري التحضير له في الشرق الاوسط.

ليس شائعاً أن يتحدَّث رئيس أميركي من على منبر الأمم المتحدة عن «تدميرٍ كامل» لبلد آخر، أو أن يستهزئ بزعيم عالمي آخر.

لكنّ الأهم أنّ ترامب الذي ذكر في خطابه إيران 12 مرة، تجاهَل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، فلم يتطرَّق ولو لمرّة واحدة الى مشروع السلام بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين.

وجاء خطاب وزير الخارجية السعودي عادل الجبير لاحقاً حول عدم وجود مبرِّر لاستمرار النزاع العربي - الاسرائيلي في ظلّ التوافق الدولي على حلّ الدولتين ليُكمل خطاب الرئيس الاميركي، خصوصاً أنّ ذلك جاء بعد إمساك مصر بمفاصل التسوية الفلسطينية - الفلسطينية في غزة.

الواضح أنّ ثمّة خطوطاً عريضة جاري تثبيتها في الشرق الاوسط، في موازاة التطوّرات في الميدان السوري، في وقت ترفع فيه واشنطن العصا في وجه إيران وتُلوّح بالجزرة لإسرائيل.

أضف الى ذلك، تعزيز ترامب سياسة طائرات «الدرونز» وفتح مجال عملها في اجواء الشرق الاوسط الى جانب توسيع دائرة حرية اتخاذ القرارات للقيادات العسكرية الاميركية في المنطقة.

صحيح أنّ ترامب رفع سقف التهديد حيال الاتفاق النووي المعقود مع إيران، لكنّ الديبلوماسيّين الأوروبيّين لا يعتقدون بأنّ البيت الابيض قادر على الذهاب بعيداً، خصوصاً مع تمسّك العواصم الأوروبية المعنيّة بالاتفاق، فيما حذَّرت الإدارة الأميركية ترامب بأنّ المساس بجوهر الاتفاق سيُضاعف الأزمة مع كوريا الشمالية التي تُراقب عن كثب كيف يتعامَل البيت الابيض مع الاتفاق النووي الإيراني لمعرفة ما سيكون مصيرها في حال وافقت مستقبلاً على التخلّي عن أسلحتها النوويّة من ضمن اتفاق.

ما يعني أنّ ترامب الذي يُريد اتخاذ قرار ما يسمح له باستثماره في الداخل الاميركي، لا يبدو قادراً على الذهاب بعيداً أو المساس بجوهر الاتفاق، بل هو قادر على اتخاذ خطوات شكلية يستخدمها في الداخل ومن دون أن تؤدي الى المساس بالاتفاق.

وخلال اللقاء الذي عقده نائب مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد ساترفيلد مع وزير الخارجية اللبنانية جبران باسيل، قال المسؤول الاميركي إنّ بلاده لم تتَّخذ قراراً بعد حول المشاركة في إعادة إعمار سوريا. وهذا الكلام يعكس بوضوح أنّ التفاهمات حيال الملف السوري قطعت شوطاً كبيراً بعدما كان الكلام السابق ينحصر في موضوع بقاء الرئيس بشار الأسد.

وفي الميدان، لا تبدو التطوّرات بعيدة عن السياق عينه، وتحديداً في دير الزور حيث ترسيم مناطق النفوذ يجري على وقع المعارك العنيفة الدائرة وسط أهداف ثلاثة: منابع النفط، وتأمين الطريق البرية بين العراق وسوريا، ومصير الأكراد والدولة التي يزمعون تحقيقها.

صحيح أنّ بعض الخلافات تظهر بين الجيشين الأميركي والروسي، لكنها تبقى تحت سقف التفاهم الكبير بينهما حول ترتيب المنطقة وتقاسم الأدوار فيها. وهذا الواقع ليس بجديد، إذ شهدت المنطقة شبيهاً له منذ أكثر من مئة عام ولو وفق الظروف التي كانت سائدة يومها.

ففي العام 1916 توجَّه المندوب السامي الفرنسي جورج بيكو من بيروت الى القاهرة حيث اجتمع بالمندوب السامي البريطاني مارك سايكس للتفاهم على كيفية تقاسم النفوذ في الشرق الاوسط بعد أن تحطّ الحرب العالمية الأولى أوزارها وتتفكّك السلطنة العثمانية، يومها ولد اتفاق سايكس - بيكو الشهير، ما حتَّم على المسؤولَين الفرنسي والبريطاني السفر الى مدينة بطرسبورغ الروسية لضمان موافقة موسكو وإعطائها حصّتها.

ووفق الاتفاق، نالت فرنسا الجزء الأكبر من القسم الغربي للشرق الاوسط عبر إعطائها لبنان وسوريا وصولاً الى الموصل في العراق. أمّا بريطانيا فقد امتدَّت سيطرتها من بغداد والبصرة والطرف الجنوبي لسوريا والمناطق الواقعة بين الخليج العربي ومنطقة النفوذ الفرنسية.

أمّا فلسطين فوُضعت تحت إدارة دولية يتمّ الاتفاق عليها بالتشاور بين فرنسا وبريطانيا وروسيا. فيما تمنح بريطانيا الإشراف على ميناءي حيفا وعكا على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحها ميناء الاسكندرون.

أمّا روسيا فقد نالت الولايات الارمنية في تركيا إضافة الى شمال كردستان، وضمان ممرّها البحري، وحقّها في الدفاع عن مصالح الأرثوذكس في الاماكن المقدّسة في فلسطين.

واللافت أنّ اتفاق «سايكس - بيكو»، والذي خرجت منه روسيا لاحقاً بعد الثورة البولشفية، لم يمنح الأكراد دولتهم الموعودة، لا بل جرى تقسيم هؤلاء على أربع دول هي: تركيا وسوريا والعراق وايران، فيما حصل اليهود على منطقة في فلسطين.

وبعد أكثر من مئة عام، لم يتغيَّر جوهر منطق التسويات والتقاسم الذي أنتجَ اتفاق «سايكس - بيكو»، ويأتي الاتفاق الجديد ولكن بين واشنطن وموسكو هذه المرة، وبأساليب تلائم القرن الواحد والعشرين.

يومها، إختلفت باريس ولندن على بعض التفاصيل، ولكن من دون أن يُصيب ذلك جوهر الاتفاق، والخلافات الاميركية - الروسية حول بعض التفاصيل تبدو مشابهة الى حدٍّ كبير.

وإذا كان «سايكس - بيكو» قد مهَّد لولادة دولة إسرائيل، فإنّ الاتفاقات الحالية تُمهّد لأن تصبح اسرائيل دولة طبيعية في هذه المنطقة لا بل قوة ستتولّى دور رأس الحربة في الصراع ضد المحور الايراني. وقد تكون غاراتها المكثفة في سوريا في هذه المرحلة لتكريس دورها هذا، إضافة الى سعيها لأن تؤدي دور القادر على مناهضة ايران خصوصاً في سوريا.

منذ مئة عام وُضعت دول تحت الانتداب المباشر، واليوم هنالك ما يشبه الدول الفاشلة ما يعني بقاءها جغرافياً وبالشكل فقط، فيما هي مقسّمة بنيوياً على ارض الواقع، مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا والى حدٍّ كبير لبنان، وربما هناك دول أخرى مستقبلاً.

وإذا كانت الفدرالية صيغة أثبتَت نجاحها في دول كثيرة من أجل تمتين الدولة وتعزيز قدرتها وقوّتها، لكنّها في الشرق الاوسط وفي الظروف الموجودة تصبح مدخلاً لتقسيم الدول داخلياً على أساس طائفي أو عرقي، ما سيُبقيها أسيرة صراعات لا تنتهي ويبقيها دولاً فاشلة.

ولهذا مثلاً، لن ينال الاكراد دولتهم المستقلة، بل في أفضل الأحوال حكماً ذاتياً داخل الدول الفاشلة خلافاً للوعود التي تلقّوها عندما كانت الدول الغربية في حاجة لمقاتليهم وجنودهم.

ولأنّ المرحلة مرحلة تسويات واتفاقات وتغيير خرائط، كان لا بد لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون عدم تجاهل ما ورَد في خطاب ترامب حول توطين اللاجئين.

وعلى رغم التبريرات التي جهدت الديبلوماسية الاميركية في تسويقها بأنّ الترجمة لم تكن تعكس حقيقة كلام ترامب، أو بأنّ ترامب لم يكن يقصد ما يقول لأنه غير ملمّ بشؤون المنطقة، لكنّ التغييرات والتبدّلات الديموغرافية العديدة الجاري نسجها تُلزم المسؤولين اللبنانيّين وضع هذا الملف حيّز التنفيذ، لا التلطّي خلف أعذار لا تؤدي في نهاية المطاف إلّا لبقاء النازحين في لبنان.