بين ليلةٍ وضُحاها، انقلبت أوضاع "ثنائية" رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ ورئيس الحكومة ​سعد الحريري​ رأسًا على عقب، فهي لم "تهتزّ" فحسب، بل باتت قابلة للسقوط، مع ما يعنيه ذلك من إعادة لعقارب الساعة إلى الوراء، وتحديدًا إلى ما قبل التسوية السياسية التي أفضت لانتخاب الأول رئيسًا للجمهورية، وتسمية الثاني رئيسًا للحكومة.

وإذا كان "الكباش" الذي دار خلال الساعات الماضية بين وزيري الداخلية ​نهاد المشنوق​ والخارجية ​جبران باسيل​، على خلفية لقاء الأخير نظيره السوري ​وليد المعلم​، شكّل السبب المباشر للتدهور المستجدّ في العلاقة، فإنّه أخفى بين طيّاته كباشًا مستترًا أكبر على خطّ العلاقة بين عون والحريري نفسيهما، علمًا أنّ المشنوق مهّد لـ"قرارٍ" سيُتّخذ خلال الساعات المقبلة، في سبيل "المواجهة".

فكيف سيكون شكل هذه "المواجهة"؟ وعن أيّ قرارٍ يتحدّث المشنوق، المعروف بأنّه "اليد اليمنى" للحريري؟ وهل يصحّ ما يُحكى في "الكواليس" عن تفكير الحريري جديًا بالاستقالة؟.

رفع للسقف وأكثر...

عاليًا، رفع وزير الداخلية نهاد المشنوق السقف، احتجاجًا على اللقاء الذي عقد على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بين وزير الخارجية جبران باسيل ونظيره السوري وليد المعلم، حيث وصفه بأنّه "مخالفة للتسوية السياسية وللبيان الوزاري الذي نص على النأي بالنفس"، واعتبره "اعتداءً سياسيًا على موقع رئاسة الحكومة"، متوعّدًا بـ"مواجهته" بكلّ الوسائل.

المشنوق ذهب أبعد من ذلك، معتبراً أنّ "هذا الوضع المستجد يتطلب قرارًا سياسيًا مماثلاً لمواجهة ما تم، وهو موضع تشاور بغية اتخاذ الموقف المناسب خلال أيام قليلة"، وهو قرارٌ خضع سريعًا للتأويلات، وتحوّل محور أخذ وردٍ، دخل "التنجيم" على خطّه، مع توقّع كثيرين أن يكون بمثابة "تمهيد" لإعلان رئيس الحكومة استقالته، رفضًا لفرض "التطبيع مع النظام السوري" عليه كأمرٍ واقعٍ، وهو ما يرفضه جملةً وتفصيلاً، شكلاً ومضمونًا، وأياً كانت الذرائع والحجج.

وإذا كان الاحتجاج لم يصل لهذا المستوى مثلاً مع الزيارات التي قام بها عددٌ من الوزراء في حكومته، ولا سيما من "​حزب الله​" و"​حركة أمل​" و"​تيار المردة​" إلى العاصمة السورية، رغم إصرار بعضهم على "صفتهم الرسمية"، فإنّ الأمر هذه المرّة يبدو مختلفًا، أولاً لأنّ أحدًا لا يستطيع أن يقول أنّ الوزير باسيل التقى نظيره السوري بصفته الشخصيّة أو الحزبيّة، وهو الذي كان جزءًا من وفد ​لبنان​ الرسمي إلى نيويورك بوصفه وزير الخارجية. وبالتالي، فإنّ سكوت الحريري عن خطوة الأخير لا يمكن أن يصبّ في خانة "النأي بالنفس" بأيّ شكل، بل سيُعتبَر تصديقًا في مكانٍ ما على موقف "التيار" أو غضّ نظر، في أحسن الأحوال، لن يُحسَب سوى سلبًا على الحريري.

وأبعد من ذلك، فإنّ "امتعاض" رئيس الحكومة، من خلال وزير الداخلية، على تصرّف وزير الخارجية، يخفي بين طيّاته "امتعاضاً" أكبر من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون نفسه، ليس فقط لكون باسيل لا يتصرّف من تلقاء نفسه، بل بالتكافل والتضامن مع الرئيس عون، وبالتنسيق والتشاور الكامل معه، وإنما لأنّ التصريحات التي أدلى بها لمؤسسات إعلامية غربية لم تكن أفضل حالاً، هو الذي أعلن بشكلٍ واضح أنّ لبنان سيبحث مع ​الحكومة السورية​ عودة النازحين وأنّ هناك مشاورات قيد البحث، في وقتٍ يحرص الحريري على نفي ذلك كلما سنحت له الفرصة لذلك.

لا استقالة في الأفق

​​​​​​​لكن، وعلى الرغم من "الإحراج" الذي يشعر به فريق الحريري جرّاء مثل هذه المواقف، وبعيدًا عن "البروباغندا المفتعلة" على هذا الصعيد، من الدائرة المقرّبة منه قبل البعيدة عنه، فإنّ خيار الاستقالة يبقى مستبعدًا حتى إشعارٍ آخر في هذه المرحلة، لاعتباراتٍ عديدة، أولها مصلحة الحريري التي يوليها الأولوية في خياراته السياسية منذ فترة. فالرجل الذي قدّم ما قدّم من تنازلات، بدءًا من الموافقة على انتخاب "خصمه السياسي" رئيسًا للجمهورية والدخول في تفاهم معه، وما تلاها من خطوات، لن يفرّط بما حقّقه من خلال استقالةٍ غير مدروسة، قد يصنّفها البعض على أنّها بمثابة "انتحار سياسي"، ليس لأنّ خطوة من هذا النوع ستضرب له كلّ ما حقّقه حتى اليوم فحسب، بل لأنّها لن تضمن له العودة الميمونة إلى السراي، وستعيد خلط كلّ الأوراق في الساحة السياسية الداخلية.

وإذا كانت الواقعية السياسية تقتضي على الحريري الابتعاد عن خيار الاستقالة قدر الامكان، وعدم استخدامه إلا من باب "التهويل" ربما، فإنّ العلاقة التي نسجها مع رئيس الجمهورية، و"​التيار الوطني الحر​"، تلعب دورًا محوريًا أيضًا في منع انزلاق الأمور إلى ما لا تُحمَد عقباه، خصوصًا أنّ الحريري يدرك أنّ "التيار" أعطى الحريري الكثير، حتى على حساب بعض المبادئ التي يؤمن بها، فهو تخلّى عن مقولة "​الإبراء المستحيل​" الشهيرة، وغضّ النظر عن ​الانتخابات الفرعية​، ومرّر له الكثير من "الصفقات" داخل ​مجلس الوزراء​، ولو أنّ ذلك أتى، كما يقول العارفون، على قاعدة "مرّر لي حتى أمرّر لك".

في المقابل، فإنّ المصلحة التي تمنع الحريري من إعلان "الطلاق" مع الرئيس عون والوزير باسيل تمنعه أيضًا من "التطبيع" معهما بعد الذي حصل وكأنّ شيئًا لم يكن، لأنّه يدرك أنّ ذلك سيفسح المجال أمام "انتفاضة سنيّة" عليه من قبل خصومه، وما أكثرهم، وجلّهم سيستغلّ الفرصة للتصويب على الرجل في قلب "بيئته الحاضنة"، التي تمّ تعبئتها شعبيًا لعدم تقبّل أيّ "تنازل" من هذا النوع. ولا يحتاج المرء للكثير من العناء ليدرك أنّ الحريري ليس في هذا الوارد اليوم، هو الذي سعى بكلّ طاقته لتطيير الانتخابات الفرعيّة لتفادي أيّ "مواجهة" لا يعتبر أنّه بات جاهزًا لها مع هؤلاء الخصوم، وعلى رأسهم اللواء "المتمرّد" عليه ​أشرف ريفي​، كما رئيس الحكومة الأسبق ​نجيب ميقاتي​.

من هنا، فإنّ لا مجال للشكّ أنّ "المزايدات" ستشكّل عنوان "المواجهة" بين الطرفين في المرحلة المقبلة، حيث سيصرّ "المستقبل" على الظهور بمظهر الرافض لـ"التطبيع" مع النظام السوري، وذلك لحساباتٍ انتخابيّة بالدرجة الأولى، إلا أنّ الأمر لن يتخطّى رفع السقف الانتخابي وبعض خطوات "رفع العتب"، التي لا يُستبعَد أن تكون منسّقة، علمًا أنّ هناك من يقول أنّ جزم وزير الداخلية بأنّ الانتخابات ستجري وفق مبدأ "التسجيل المسبق في مكان السكن"، الذي يعارضه باسيل، شكّل نقطة البداية، وكأنّ بالمشنوق يردّ على "تفرّد" باسيل بالتصرّف في ما يتعلق بعلاقات لبنان الخارجية على اعتبار أنّها من صلاحيات وزارته بـ"تفرّد مقابل" في ما يتعلق بإدارة الانتخابات كونها هي أيضًا من صلاحيات وزارته.

حسد؟

قبل أسبوعٍ واحد، قيل الكثير عن "التناغم المبالَغ به" بين رئيسي الجمهورية والحكومة، والذي أدّى لاستياء رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ مثلاً، بعد شعوره أنّهما أخرجاه من المعادلة في مكانٍ ما.

اليوم، يبدو أنّ هناك من "حسد" الرجلين على علاقتهما، فانقلبت المعطيات بينهما. هذا في الظاهر، ولكن، في المضمون، تبقى كلّ الاحتمالات واردة، بما فيها أن يكون ما يحصل مجرّد "استعراض" تتطلبه المزايدات الشعبوية، التي يفرضها الشارع، خصوصًا عشيّة موسم انتخابي يبدو أكثر من "واعد"!.