في توقيت مفاجئ للقادة الصهاينة وكل المراهنين على موت المقاومة و​الانتفاضة الفلسطينية​ الثالثة والسائرين في نهج التطبيع مع "​إسرائيل​"، جاءت العملية الفدائية النوعية في مستعمرة هار أدار في القدس العربية المحتلة، التي نفذها المواطن العربي الفلسطيني نمر الجمل من بلدة بيت سوريك في الضفة الغربية، ونجح خلالها في قتل ثلاثة جنود صهاينة وجرح رابع، مما شكل صدمة لهؤلاء جميعا، وضربة قاصمة لمخططاتهم ومشاريعهم لفرض صفقة تقضي بتصفية القضية الفلسطينية وشطب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني لمصلحة تطويب فلسطين للصهاينة والاعتراف بالدولة اليهودية العنصرية وعاصمتها القدس، وإيجاد صيغة دولية للسيادة على ​المسجد الأقصى​.

على أن هذه العملية الفدائية تميّزت بجملة من الدلالات المهمة:

الدلالة الأولى: نوعية العملية من الزاوية الأمنية، فهي تكمن في نجاح الفدائي البطل نمر الجمل في استغلال تردده على المستعمرة الصهيونية للعمل فيها، كما الكثير من العمال الفلسطينيين، لتنفيذ هجومه، بواسطة مسدس والتغلب على أربعة جنود مدربين جيدا على مواجهة مثل هذه العمليات الفدائية، وهو ما يؤشر إلى أن الفدائي نمر قد تدرب جيدا على تنفيذ عمليته واستطلع مكان تواجد الجنود الصهاينة، وأخذ كل الاحتياطات والإجراءات اللازمة لضمان نجاحه في تنفيذ عمليته.

الدلالة الثانية: أن العملية تأتي بعد أن اتخذت سلطات الاحتلال إجراءات أمنية أكثر تشددا إثر العمليات التي شهدتها مدينة القدس في الأشهر الماضية، وكان آخرها العملية التي نفذها ثلاثة شبان فلسطينيين من سكان الأراضي المحتلة عام 1948 في باحات المسجد الأقصى ضد جنود الاحتلال، وكان من نتيجتها أن حصلت انتفاضة شعبية فلسطينية تمكنت من كسر القرار الإسرائيلي بفرض إجراءات أمنية حول المسجد الأقصى عبر إقامة بوابات إلكترونية ونصب كاميرات وأجبرت حكومة العدو في النهاية على إزالتها، الأمر الذي أعتبر من قبل المحللين والخبراء الصهاينة ضربة قوية قوضت قوة الردع الصهيونية. يومها قيل أن العملية أكدت فشل كل الإجراءات الأمنية الصهيونية، وكشفت عدم قدرة الأجهزة الأمنية الصهيونية على التنبؤ بحصول العملية، وأن الانتفاضة لم تتوقف وهي تستمر بأشكال مختلفة وجديدة. اليوم بعد هذه العملية أجمع المحللون الصهاينة على وجود عجز إسرائيلي عن توقع حصول العملية، أن كان لناحية عدم امتلاك أي إنذار مبكر بالإعداد لها وتوقيت تنفيذها، أو كان لناحية سقوط كل الفرضيات التي كانت تقصر تنفيذ مثل هذه العمليات على الشباب، فمنفذ العملية الجديدة هذه المرة لم يكن شابا، فهو في سن 37 من العمر، أما المنطقة التي أتى منها لتنفيذ العملية فإنها من الضفة الغربية وهي لم تكن تندرج في حسابات الأجهزة الأمنية بأنه سينطلق منها فدائي لتنفيذ عملية في مستعمرة في محيط القدس، وهو ما أكده المستوى السياسي الإسرائيلي الذي إثر اجتماع طارئ أعقب العملية، بأنه لم يكن لدى "إسرائيل" أي سابق إنذار بشأنها، وأن منفذ العملية الشهيد نمر وصل إلى المستوطنة التي يعمل فيها بواسطة تصريح عمل. هذا أن دل على شيء إنما يدل على ضعف منظومة الأمن الصهيونية وعدم قدرة إجراءاتها الأمنية على منع حصول مثل هذه العمليات التي باتت سمة تطبع الانتفاضة الفلسطينية الثالثة. ومنفذوها لا ينتظرون إذنا أو قرارا لتنفيذ عملياتهم، فهم الذين يتخذون القرار بأنفسهم، ويقومون باستطلاع أهدافهم، وتحديد توقيت هجماتهم، الأمر الذي يجعل الاحتلال في حالة من التخبط الأمني والضياع وفقدان الأعصاب، في كل مرة تحصل فيها عملية فدائية ناجحة في تحقيق أهدافها، وتؤدي إلى هز الأمن الصهيوني، وتوجيه ضربة لمنظومة إجراءاته الاحترازية، وتكشف كم أنه رغم ما يمتلكه كيان العدو من قدرات أمنية وعسكرية وأجهزة متطورة فإنه غير قادر على ضمان وحماية أمن جنوده، ولا أمن مستوطنيه المحتلين لأراضي الفلسطينيين.

الدلالة الثالثة: تؤكد العملية ما قلناه في مقالات سابقة بأن الانتفاضة الثالثة لها سمات جديدة مختلفة عن الانتفاضات الماضية، إن كان لجهة المناطق التي تتركز فيها وينطلق منها منفذو العمليات الفداىية، في القدس وبعض مناطق الضفة التي لا تملك فيه السلطة الفلسطينية قدرة أمنية لمراقبة نشاط المقاومين الفلسطينيين، أو لجهة أن الانتفاضة وعملياتها سوف تكون متقطعة وتتميز بالسرية التامة، ولا تملك سلطات الاحتلال أو أجهزة الأمن الفلسطينية المتعاونة معها معلومات مسبقة عن منفذيها لأن ليس لديها أرشيف أمني أو معروف عنهم أنهم ينتمون إلى إحدى الفصائل الفلسطينية.

الدلالة الرابعة: أن العملية الجديدة استهدفت جنود صهاينة ولهذا كانت موضع شبه إجماع فلسطيني على المستوى الشعبي، فهي حظيت بالتأييد والمباركة وعكس ذلك التغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي وردود الفعل الشعبية والسياسية، فيما السلطة الفلسطينية لم تجرؤ على إدانتها أو الاعتراض عليها، كما فعلت إزاء عملية الشبان الثلاثة في الأقصى.

الدلالة الخامسة: أسقطت العملية كل محاولات تدجين الشعب العربي الفلسطيني وفرض الأمر الواقع عليه، عبر محاولات دفعه لقبول الاستسلام، وبالتالي التسليم بمشاريع التعايش مع الاحتلال، والتخلي عن المقاومة، والقبول بالتسوية التي يجري تسويقها على حساب حقوقه الوطنية، فالعملية أكدت أن هذه المحاولات باءت بالفشل، وأن جيل الشباب، ومن هم عايشوا مرحلة توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم ونتائجه الخطيرة والمدمرة للقضية، وكيف خدم الاحتلال، قرروا أخذ زمام المبادرة لتجديد النضال الوطني الفلسطيني وتدشين مرحلة جديدة في مقاومة الاحتلال، بعدما أصبح لديهم اقتناع راسخ بأن لا سبيل لاسترجاع الحقوق وتحرير الأرض والعيش بحرية وكرامة، إلاّ عبر العودة إلى انتهاج طريق المقاومة المسلحة والانتفاضة ضد الاحتلال، تماما كما فعلت كل الشعوب التي واجهت احتلالا أجنبيا واستعمارا استيطانيا، وتمكنت من الانتصار عليه ودحره عن أرضها.