إذا كان صحيحًا أنّ العلاقات المسيحيّة-المسيحيّة ليست على أفضل ما يُرام، بسبب خلافات سياسية، وصراعات أحجام حزبيّة، و"كباش" نُفوذ مُتصاعد، تُضاف إلى ترسّبات من الماضي، فإنّ العلاقات بين باقي الطوائف والمذاهب ليست على أفضل ما يُرام، حيث أنّ العلاقات مُتوتّرة في الساحة الإسلاميّة أيضًا، وتحديدًا في الساحات المذهبيّة الدرزيّة والسنّية وحتى الشيعيّة. وفي هذا السياق، يُمكن تسجيل ما يلي:

في الساحة المسيحيّة، العلاقة بين "التيّار الوطني الحُرّ" وحزب "القوات ال​لبنان​يّة" تراجعت بشكل واضح في الأشهر القليلة الماضية بغضّ النظر عن حرص الطرفين على عدم العودة إلى مرحلة الخُصومة والعداء، ومن أسباب التراجع إعتبار "القوّات" أنّ التوافق مع "التيّار" إرتكز على قاعدة المُشاركة السويّة في الحُكم، بينما جاء التنفيذ الميداني مُختلفًا، حيث يتمّ دَوريًا تجاهل مطالب وآراء "القوات"، مع تسجيل سُقوط رهان "القوات" على تموضع سياسي وسطي للتيّار "العَوني" بعد إنجاز التسوية، بينما فعليًا لا يزال "التيّار" مُنحازًا إلى "​حزب الله​" وإلى المحور الذي دعمه منذ "تفاهم مار مخايل". وتأخذ "القوات" على "التيّار" أيضًا عدم أخذه بترشيحاتها أو بمنحها فُتات المناصب والتعيينات في أفضل الأحوال، وذلك بشكل مُتكرّر وفي أكثر من "سلّة" تعيينات. في المُقابل، يُحمّل "التيّار" "القوّات" مسؤولية تراجع العلاقة، بإعتبار أنّ هذه الأخيرة لم تصطفّ إلى جانب العهد كما كان يُتوقّع منها، بل وقفت بوجه الكثير من مشاريع "التيّار" تحت عناوين مُختلفة. وكل من "القوات" و"التيار" يلومان بعضهما البعض بسبب ترشيحات نيابيّة مُتضاربة ومحاولات دُخول سياسي إلى مناطق نُفوذ الطرف الآخر من دون تنسيق وحتى بشكل تحدّ مُستغرب في بعض الأحيان. والعلاقة بين تيّاري "الوطني الحُرّ" و"​المردة​" إنتقلت من الفُتور والبُرودة في السنوات الماضية إلى التوتّر الواضح منذ أنّ فرّقتهما معركة منصب رئاسة الجُمهورية، وما شابها من "شدّ حبال" بين الطرفين بقي مُستمرًّا حتى بعد إنتخاب العماد ​ميشال عون​ رئيسًا، نتيجة توجّه لدى الطرفين للدُخول في مُواجهة نيابيّة قاسية، لفرض النُفوذ السياسي، ولتحضير الأرضيّة للإنتخابات الرئاسيّة المقبلة. أمّا العلاقة بين "القوات" وحزب "الكتائب اللبنانيّة" فشهدت بدورها تراجعًا كبيرًا منذ تنصيب النائب ​سامي الجميل​ رئيسًا للحزب، وخاصة بعد إخراج "الكتائب" من الحُكومة وإنتقالها إلى موقع المُعارضة، ومُحاولتها إستغلال هذا الموقع بأسلوب شعبويّ من دون التوقف عند أي إعتبار سياسي أو تحالف سابق.

لكنّ ما تشهده الساحة المسيحيّة من إنقسامات وخلافات ينسحب أيضًا على باقي القوى والأحزاب السياسيّة في البلاد وليس محصورًا بها-كما يُحاول البعض الإيحاء به، حيث أنّ الساحة الدرزيّة ليست أفضل حالاً في ظلّ قطيعة مُستمرّة بين رئيسي "​الحزب الديمقراطي اللبناني​" وزير الدولة لشؤون المهجّرين طلال أرسلان و"​حزب التوحيد العربي​" الوزير السابق وئام وهّاب، على الرغم من تموضعهما المُفترض ضمن الخط السياسي الواحد، وعلى الرغم من محاولات "حزب الله" جمعهما. وإذا كان التنافس على النُفوذ في الساحة الدرزيّة هو الذي يُفرّق بين كل من أرسلان ووهّاب، إضافة إلى الحزازيّات الشخصيّة، فإنّ هذا التنافس يُضاف إليه الخلاف السياسي الكبير، هو ما يجعل من تقارب رئيس "​الحزب التقدمي الإشتراكي​" النائب ​وليد جنبلاط​ معهما غير مُمكن. وإذا كان كل من جنبلاط وأرسلان توافقا في العام 2009 على أن يتم ترك أحد المقاعد النيابيّة شاغرًا ضُمن لائحة الأوّل لصالح الثاني، حفاظًا على بُيوتات سياسيّة من هنا وعلى إرث إقطاعي من هناك وقطعًا للطريق أمام شخصيّات درزيّة أخرى هنالك، فإنّ هذا "السيناريو" غير مُمكن في دورة الإنتخابات المُقبلة، باعتبار أنّه يجب إنتخاب لوائح كاملة من دون إمكان شطب أو إضافة أي إسم، وحيث لكل صوت إنتخابي قيمته الكُبرى للفوز. وهذا ما يجعل المسار إلى الإختلاف والتنافس أقصر من ذلك الذي يُؤدّي إلى التوافق، خاصة وأنّ وهّاب يُراهن هذه المرّة على إمكان خرقه "الثنائية الدرزيّة" المُستمرّة منذ عُقود طويلة.

​​​​​​​وفي الساحة السنّية، الإنقسام لم يعد بين "تيّار المُستقبل" وخُصومه ومنافسيه السياسيّين-كما كان الحال عليه في السابق، بل إنتقل إلى داخل "البيت المُستقبلي"-إذا جاز التعبير، وإلى داخل الخط السياسي الواحد في بعض الأحيان. والخلافات التكتيّة والصراع على النُفوذ جعلت مثلاً اللواء المُتقاعد ​أشرف ريفي​ يعمل على فرض حيثيّة سياسيّة له، حيث يُنتظر أن يُشكّل ويدعم مجموعة مُتكاملة من اللوائح الإنتخابيّة، ما يعني أنه سيأكل من نفس صحن "المُستقبل"-إذا جاز التعبير، ما سيبقي العلاقة بين الطرفين مُتوتّرة. وخُصوم المُستقبل على الساحة السياسيّة كُثر من عكّار إلى صيدا، مُرورًا ب​طرابلس​ و​بيروت​، والمعارك المُرتقبة بين "التيّار الأزرق" وهؤلاء سيتداخل فيها السياسي والحزبي والشخصي، إلخ.

وبالنسبة إلى الساحة الشيعيّة، إنّ عدم وُجود سجالات سياسيّة يوميّة يعود إلى إختلال كبير في موازين القُوى بين من جهة "الثنائي الشيعي" الذي يُسيطر على الوجود الشيعي في الدَولة عبر عشرات الوزراء والنوّاب والمناصب الإدارية، مدعومًا بشبكة كاملة من أجهزة الإعلام على إختلاف أنواعها، ومن قوّة مُسلّحة كبيرة، ومن تمويل خارجي دَوري يسمح بتقديم المُساعدات الإجتماعية والخدمات الطبية، إلخ. ومن جهة أخرى، "مُعارضة شيعيّة مُستقلّة" إلتقت في أحد فنادق بيروت مؤخّرًا، وأصدرت وثيقة سياسيّة في مُحاولة لتقديم ما يُمكن وصفه بالخيار البديل للناخب الشيعي خارج السيطرة المُطلقة لكلّ من "حزب الله" و"​حركة أمل​". والإنقسام بين الطرفين يفوق ما تشهده باقي الساحات الطائفية والمذهبية في لبنان، ويصل إلى حدّ التخوين والإتهام بالعمالة والإستزلام المُطلق لقوى خارجية، وعدم إستحواذ هذا الإنقسام على التغطية الإعلاميّة لا ينفي وُجوده.

في الخلاصة، الخلافات والإنقسامات والتوتّرات لا تقتصر على الساحة المسيحيّة، بل تشمل مُختلف الساحات الطائفية والمذهبيّة في لبنان، وهي تُضاف إلى الخلافات السياسيّة العموديّة وتلك التكتيّة ضمن الخط السياسي الواحد أيضًا. وكل الإشارات الحاليّة تُوحي بأنّ مُحاولات "رأب الصدع" التي تقوم بين الحين والآخر بين هذا الطرف أو ذاك، لن تكون أكثر من مُجرّد "حبّة مُسكّن"، لأنّ المعركة النيابيّة صارت على الأبواب، ورفع وتيرة الخلافات والتوتّر هي من ضُمن "عدّة الشغل"-إذا جاز التعبير. وبالتالي، قبل صُدور نتائج عمليّات الإقتراع المُقبلة، لا فرص كبيرة بتراجع هذه التوتّرات، بل مُؤشّرات واتجاه لارتفاع وتيرتها!