قانون الانتخاب​ الحالي «قِصَّتُه قِصَّة». فغداة ولادته، جلس أعضاء اللجنة الوزارية في السراي ليدرسوه، فوقفوا أمامه عاجزين لا يفهمون منه إلّا القليل. فاستغاثوا بالعديد من نواب لجنة الصياغة والخبراء الذين حضروا لفَكفكة العُقَد والألغاز، فـ«تحسَّن وضعُهم» قليلاً. ولكنهم، ومعظم الوزراء والنواب، مرَّروا قانون الانتخاب، «على عِلّاته»... وكأنّ هناك «قطبة مخفية»: مرِّروا القانون ولا تخافوا!

ليس في الأفق ما يجزم بأنّ الانتخابات النيابية ستجري في أيار 2018. والفضيحة هي أن أيّاً من القوى النافذة في السلطة لم يبدأ ورشة الاستعداد لهذه الانتخابات، على رغم الأهمية التي ترتديها بالنسبة إلى الجميع. بل إنّ عدداً من هذه القوى، مع اقتراب الاستحقاق، بدأ يفتعل الأزمات لتبرير تعطيل الانتخابات... و​التمديد​ للمرة الرابعة!

عند انتخابه، أعلن الرئيس ميشال عون أنّ عهده لم يبدأ في تشرين الثاني 2016، بل سيبدأ في صيف 2017، بعد إجراء الانتخابات النيابية التي كانت مقررة في حزيران وتشكيل حكومة جديدة. فجاء التمديد للمجلس حتى أيار 2018 ليؤجّل «بداية العهد».

وقبل 7 أشهر من الموعد المفترض، يرمي كثيرون بكميات هائلة من العصيّ في دواليب الانتخابات، ما يوحي بأنّ احتمال تطييرها وارد جدّياً، بعدما تمّ التوافق على تطيير ​الانتخابات الفرعية​ بدم بارد. وهكذا، فالرئيس عون ربما عليه الانتظار أكثر لـ«بداية عهده».

وكلام رئيس الجمهورية على الربط بين بداية العهد وإجراء الانتخابات النيابية يعني أنه سيكون عاجزاً عن الوفاء بأي وعدٍ قطعه للناس في ظل التركيبة السياسية الممسكة بالبلد حالياً. وتالياً، هو يعني أنّ عون يثق تماماً في أنّ الانتخابات المقبلة ستتكفل بعزل جزء مُهمّ من هذه التركيبة وانفراط عقدها ونشوء دينامية جديدة منتجة في ​المجلس النيابي​ والحكومة.

ولكن، كل المجريات جاءت حتى اليوم على نقيض ما طرحه الرئيس:

1 - وعَدَ عون ب​قانون انتخاب​ واضحٍ، يتكفّل بالتغيير، ورفَضَ التمديد للمجلس مجدداً، أياً كانت الذرائع. ولكن، تمّ استيلاد قانون مُبهَم حتى بالنسبة إلى صانعيه. وعلى الأرجح، هو صُنِع لئلّا ينفَّذ.

وفي أي حال، هو ليس قانوناً تغييرياً لأنّ الطبقة السياسية، التي فرضته على عجل سعياً إلى التمديد، تدرك أنه ليس جديراً بالتنفيذ من دون إدخال تعديلات أساسية عليه. والدخول في هذه التعديلات سيؤدي إلى نزاع كبير حوله ربما يعيد خلط الأوراق رأساً على عقب.

2 - وَعَدَ عون بالإصلاح، لكنّ رائحة الفساد والصفقات وتجاوز الدستور تفوح من أمكنة كثيرة. وصحيح أنّ القلائل قادرون على إثبات هذا الفساد والتجاوزات، ولكن، لا أحد يستطيع إنكارها أيضاً. وانتفاضة ​المجلس الدستوري​ بقعة ضوء في ظلام الجمهورية، لكنها لا تكفي. وهذه الصورة تسيء إلى العهد ما لم يتدخّل بقوة.

3 - وعَدَ عون حلفاءه الجدد من «14 آذار» بأنه سيلتزم حياد لبنان عن صراع المَحاور. وفي العام الأول من العهد تكاد تنفجر الخيبات بينه وبينهم على خلفية انغماس لبنان في الصراع الإقليمي وبداية انزلاقه نحو محور طهران- دمشق الأسد.

4 - وعَدَ عون حلفاءه الجدد من «14 آذار» بأنه سيكون رئيساً قوياً لجمهورية قوية. لكنّ إدارة شؤون الجمهورية - في الأمور الاستراتيجية لا في التفاصيل التافهة - ليست للدولة بل لآخرين.

إذاً، عهد عون يبدو في عامه الأول وكأنه يواجه عوارض اليأس المبكر التي تعصف به. ومن ميزات عون أنه شخصية مصارعة وليست مهادنة. لذلك، يتفاءل البعض بأنه سيمضي في معركته من أجل الانطلاق بالعهد الذي وَعَد به.

لكنّ آخرين يخشون أن يقرِّر عون التعايش «واقعياً» مع الضغوط التي يواجهها، على أنواعها، إلى أن تسمح له الظروف بالتغيير. فالفساد والصفقات وتجاوز الدستور والقوانين والقبول بالاستقواء على المؤسّسات والتسليم بانخراط لبنان في المحاور الإقليمية ليست أموراً عابرة يمكن التخلّص منها.

وفي عبارة أوضح: للتخلُّص منها يجب تغيير الطبقة السياسية بإجراء انتخابات نيابية على أساس قانون يتيح التغيير. ولكن، هذه الطبقة إيّاها هي التي تُطيِّر الانتخابات والقوانين إلى أجَل غير مسمّى. فهي تضْمن مصيرها بنفسها، ولا قوة قادرة على أن تهزمها.

ويقول البعض إنّ هناك تعقيدات في اللعبة الجارية تمنع عون من التصدي تماماً للتجاوزات، لأنّ كثيرين من أبطال هذه التجاوزات يحظون بالتغطية المتعددة الأوجه، السياسية وغير السياسية، وقد يكون متعذّراً الاصطدام بهم وتعريتهم.

ولذلك، سيبقى السؤال: متى يبدأ عهد عون؟

من أصل 6 سنوات هي المدّة الدستورية للعهد، بكامله، طار العامان الأوّلان... ولو جرت الانتخابات النيابية في موعدها الافتراضي في أيار 2018.

ويقال عادة إنّ الرؤساء يمضون العامين الأوّلين من العهد في التحضير للإمساك بالحكم، ويحكمون في العامين التاليين، ثم يبدأون الاستعداد للخروج (أو التمديد!) في العامين الأخيرين.

وعملاً بهذه المقولة، قد يطير العامان الأوّلان في مواجهات عبثية، وقد تعقبهما مواجهات أخرى عبثية إذا طارت الانتخابات المقرّرة في أيار المقبل. وتبقى المرحلة الأخيرة التي تشهد عادة إمّا التحضير للخلف وإمّا التمديد للرئيس لإعطائه فرصة جديدة، «لأنه لم يتمكن من الانطلاق بعهده في الأعوام السابقة».

في المواجهات، البعض يرى عدوَّه ويعرف نقاط قوته وضعفه، والبعض يتصارع مع طواحين الهواء. وعون يريد إثبات أنّه قوي فعلاً وليس «دون كيشوت»، كما آخرون!