ما يحصل من تطوّرات ميدانية وتثبيت مواقع ورسم خريطة نفوذ في ​سوريا​ ليس بمسألة بسيطة أبداً، لا بل على العكس.ولأنّ ما يحصل له تأثير في مسار الأحداث لعشرات السنوات مستقبلاً، فإنّ الرسائل المواكبة تكون قاسية، لا بل عنيفة، ولو أنها ستبقى في إطار تبادل الرسائل لا أكثر.

وبخلاف الجدل الذي سادَ الساحة اللبنانية خلال الأسابيع الماضية حول وجود تحضيرات جدّية لشنّ حرب إسرائيلية على «حزب الله» في لبنان، فإنّ التطورات تُثبت مرّة بعد أُخرى أنّ رسائل الضغط والتهويل شيء، وقرار خوض حرب شيء آخر. فلو كانت هنالك فعلاً مشاريع جدّية لشنّ حرب إسرائيلية لكانت حادثة استهداف طائرة الاستطلاع ال​اسرائيل​ية كافية للإعلان عن البدء بالحرب. لكنّ ما حصل كان معاكِساً حين توالت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين للتّخفيف من وقع الحادثة واعتبارها غير مخطّط لها مسبقاً وبأنها لن تؤثر على الوضع.

لكنّ الواضح أنّ جملة رسائل رافقت إطلاق الصاروخ على الطائرة الإسرائيلية، فالطائرة لم تكن في مهمة جديدة على ما يبدو، بل إنّ السماء اللبنانية شكّلت ساحة عمل لطائرات التجسّس الإسرائيلية، وخصوصاً خلال المراحل الأخيرة. والسؤال هنا: لماذا اختيار هذا التوقيت بالذات!

ووفق المعلومات المتداوَلة على نطاق ضيّق في الكواليس الديبلوماسية، أنّ الصاروخ أُطلق من بطاريّة موجودة في منطقة تحظى بنفوذ مباشر من الإيرانيين و»حزب الله»، ما يعني أنّ ثمّة رسالة أرادت ​طهران​ توجيهَها بالشراكة مع «حزب الله». أضف الى ذلك أنّ الصاروخ هو من نوع «SA-5» وهو قديم الصنع نسبياً وموجود لدى ​الجيش السوري​ منذ مدة بعيدة.

واستخدمته سوريا في حربها مع إسرائيل عام 1982 عند غزو الجيش الإسرائيلي للبنان. لكنّ ّّهذا الصاروخ لم يُثبت فعاليّته خلال المواجهات الجوّية التي كانت دائرة، ربما بسبب امتلاك إسرائيل أسلحة مضادة له. وبالتالي إذا لم يُظهر هذا النوع من الصواريخ فعالية عام 1982، فكيف حاله إذاً بعد 35 عاماً؟

وهو ما يعني أنّ القصد من إطلاق الصاروخ توجيه رسالة مدوّية معه أكثر منه إسقاط الطائرة والانزلاق في اتجاهات غير محسوبة. وما من شك في أنّ الصاروخ أطلق قبل ساعات من وصول وزير الدفاع الروسي ​سيرغي شويغو​ في زيارته الرسمية الأولى الى إسرائيل.

وكان معلوماً أنّ زيارة شويغو كانت مخصّصة للبحث في ملف الساحة السورية، اضافة الى مسألة الوجود والنفوذ الإيرانيّين في سوريا، وأيضاً وضع «حزب الله» في وقت تقترب ​روسيا​ من حقول النفط في دير الزور.

وجاء الردّ الإسرائيلي متأخراً بعض الشيء، وبعد زهاء ثلاث ساعات من استهداف الطائرة الإسرائيلية، وتردّد في الكواليس الديبلوماسية أنّ إسرائيل استخدمت نظامَ التواصل العسكري الطارئ والذي تمّ تركيبُه مع بداية التدخّل العسكري الروسي في سوريا والذي يربط ما بين تل ابيب وموسكو، حيث سمعت عدم معارضة القيادة الروسية الردّ على الصاروخ من خلال غارة للطائرات الإسرائيلية، شرط تدارك الوضع وعدم الذهاب ابعد من ذلك في التصعيد العسكري، وهذا ما يُفسّر كلام وزير الدفاع الإسرائيلي عقب انتهاء الغارة بأنّ بلاده لا تريد أيَّ توتر عسكري في سوريا.

لكن مع وصول وزير الدفاع الروسي، لفت الاجتماعُ الذي عقده مع رئيس ​الحكومة الإسرائيلية​ ووزير دفاعه، في حضور رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية ورئيس الاستخبارات العسكرية، اضافة الى ضباط كبار في وزارة الدفاع.

وفي المحصّلة، بدا أنّ طهران ودمشق أرادتا القول من استهداف طائرة في سماء بعلبك، إنّ السماء السورية واللبنانية هي فضاء واحد.

كذلك أرادت طهران القول للحكومة الإسرائيلية، ومن خلالها ربما لوزير الدفاع الروسي، إنّ تكبيل يد طهران في سوريا وشلّ قدرة حركتها مسألة ليست بالسهولة المتوقعة، وإنّ إيران مستعدّة للقتال بقوّة في سبيل الحفاظ على نفوذها في سوريا، وإنّ هذا ما يجب أخذه في الحسبان مع البحث الدائر حول مرحلة ما بعد انتهاء الحرب.

وقد تكون زيارة رئيس الاركان الايراني الى دمشق بعد يوم واحد من زيارة وزير الدفاع الروسي الى اسرائيل بمثابة الرد الناعم، ولكن البليغ. وتبقى الرسالة الأخيرة، والتي تقول إنّ لا أحد يرغب في الحرب، لا الجهة التي اطلقت صاروخاً غير متطوّر ولا الجهة التي ردّت بغارة على بطارية الصواريخ بعد ثلاث ساعات وأتبَعت ذلك بتصريحات تلتزم عدم التصعيد.

ولم تكن حادثة الصاروخ هي الوحيدة التي تعكس التزامَ الجميع عدم الانزلاق نحو الحرب بخلاف التهديدات التي سادت الأجواء السياسية أخيراً. فالرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ ورغم أنّ قرارَه حول ​الاتفاق النووي​ و​الحرس الثوري الإيراني​ لم يكن متناسباً مع الاسلوب العنيف الذي اعتمده، إلاّ أنه استمرّ في سلوكه الهجومي. لكنّ ثمّة مسألة تناقض كلياً مواقف ترامب المعلنة.

ففيما كان الرئيس الأميركي مستمرّاً في هجومه، كان الحرس الثوري الإيراني يساهم مع الجيش العراقي في عملية استعادة كركوك من ​الأكراد​ تحت الرقابة المباشرة للطيران الحربي الأميركي. والأهمّ أنّ القيادة العسكرية الأميركية في العراق، والتي كانت تراقب عن كثب التحضيرات الميدانية العراقية بمساعدة الحرس الثوري، لم تبلغ الأكراد أيّ معلومات عن هذا الشأن ولم تحذّرهم.

وبالطبع هذا ما ساهم في توجيه صفعة عسكرية قاسية لحكومة أربيل ولجعل عملية الاستيلاء على كركوك الغنيّة بالنفط عملية سهلة وسريعة، ما أعطى الحكومة العراقية المدعومة من إيران مزيداً من القوة. فيما أدّت هذه الخسارة الى ارتدادات صعبة عند الأكراد، ما أدّى الى ظهور انقسامات داخلية حادة مرشّحة للتفاقم مستقبلاً. وبالتالي ووفق ما تقدّم، فإنّ التطوّرات الميدانية بدت مناقضة للسقف السياسي العالي والضغوط السياسية التي سادت أخيراً.

ففي لبنان يستعدّ البعض للإنخراط في حملة سياسية مجدداً في اعتبار أنّ واشنطن أدخلت المنطقة في انعطافة جديدة عنوانها إنهاء «حزب الله» وضرب النفوذ الإيراني خارج حدودها.

حساباتٌ قد لا تبدو متطابقة مع الوقائع الميدانية.