من كل إتجاه سياسي تجمّعت الانتقادات دفعة واحدة تصيب مرمى رئيس ​الحكومة​ ​سعد الحريري​. فماذا فعل "الشيخ سعد"؟ لم يتنازل، ولم يتراجع عن ثوابته السياسية. لا هو تودد الى "​حزب الله​"، ولا بدّل موقفه من ​سوريا​ ولا غيّر من خطابه بشأن ​إيران​، ولا تردّد لحظة بالدفاع عن علاقته الممتازة بالسعودية. هناك عنوانان حكما تصرف الحريري في المرحلة الماضية: رئاسته لحكومة جامعة، وطبيعة علاقته مع وزير الخارجية ​جبران باسيل​.

في العنوان الأول: حاول الحريري أن يتصرف كرجل دولة يرأس حكومة جامعة للتناقضات السياسية في زمن إقليمي رديء جداً. بعكس كل الادعاءات عن تنازل الحريري أمام "حزب الله"، لم يُسجّل أنه قدّم تنازلاً واحداً، لا بل حاول تدوير الزوايا لإجتياز المرحلة الحالية من دون خسائر. يعرف "الشيخ سعد" بواقعية أن دور المقاومة ضد ​الارهاب​ هو مطلب لبناني شعبي وإقليمي ودولي. لم يعترض عمليا على دور الفصل بين الآراء المختلفة ووجهات النظر بشأن الملفات الخارجية. تلك الواقعية حكمت تصرف "حزب الله" أيضا الذي يعرف أن الحريري هو نفسه، لكن كلا الفريقين بحاجة لمنع تدهور الساحة اللبنانية. من هنا جاء الوئام الحكومي بشكله الاساسي.

لا قيمة للمزايدات التي ينتهجها مثلا الوزير السابق ​أشرف ريفي​ لغايات انتخابية بحتة. مصادر سياسية مهتمة ترى بأن الخطابات الشعبوية لا تُنتج إستقرارا، ولا تجلب أمناً، ولا تحمي إقتصاداً. أبسط مثال: إستقرار ​طرابلس​ الآن بعد سنوات من النزاعات التي بلغت 21 جولة قتالية دموية دفع ثمنها جميع أبناء طرابلس. يعود الفضل في ذاك الاستقرار المفتوح الى واقعية الحريري والأيدي الممدودة الايجابية لحزب الله ودور رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ الذي فتح ​عين التينة​ لحوار أبعد الخلاف من الشارع الى الطاولة.

ما يعني أن رئيس الحكومة لم يرتكب معصية وطنية، بل ساهم بترجمة الوحدة الوطنية التي صنعها بالتسويات التي أنتجت حكومة جامعة بعد ​الانتخابات الرئاسية​.

الازمة التي يواجهها "الشيخ سعد" هي في تداعيات علاقته بوزير الخارجيّة جبران باسيل. هذا العنوان الثاني محط تقييم يومي للمتابعين السياسيين. يدور حديث مفتوح عن طبيعة العلاقة بين الرجلين. سبق وان اتهم الوزير السابق ​وئام وهاب​ الحريري بأنه "بات يعمل عند باسيل". كان حينها وهاب يعبّر عن مدحه لباسيل لا الذم بالحريري. لكن بالمقابل يشكل جوهر هذا الكلام عاملا سلبيا في الاوساط السُنية التي تتهم الحريري بالتنازل امام وزير الخارجية. ما حفلت به الايام الماضية من تصريحات لمستشاري رئيس الحكومة الاسبق ​نجيب ميقاتي​ كافية للدلالة. كان يعرف باسيل ان بعض تصرفاته وتصريحاته تستفز الحريري وانصاره، لكن لم يُعرف ما إذا كان وزير الخارجية يهدف لرفع رصيده في الساحة ​المسيحية​ فقط، أم للتنصل من التسوية-الحلف مع الحريري!.

متابعون يرون ان الانتخابات النيابية فرضت تصرفا باسيلياً ستزداد وتيرته كلما اقترب موعد الإنتخابات، وسيصل تدريجياً الى الذروة عندما يحين الاستحقاق الرئاسي. الصالونات السياسية تضج بالحديث عن سعي باسيل للوصول الى سدة الرئاسة الأولى بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​. لم يعد الكلام سريّاً. لكن المحطة الاولى هي في ايار المقبل. كيف ستكون التحالفات في حال تفسّخ الحلف بين التيارين الازرق والبرتقالي نتيجة الخطاب الباسيلي؟.

هناك بدائل مفتوحة لكل الافرقاء. لم يُعرف بعد عمّا اذا كانت الغاية عند القوى العودة الى الاصطفافات الماضية. لأن الحسابات السياسية المقبلة تتحكّم بالتحالفات. واذا كانت الواقعية المذكورة اعلاه تتحكم بالحكومة الآتية بعد أيار، فإن السباق سيجري حول الرئاسة، بإعتبار أن كل فريق مسيحي تحديدا سيقيس وزنه بحسب نوابه وتحالفاته. حتى الساعة يستوعب الحريري المزايدات على الخطين. لا مشكلة حتى الآن، لكن الازمة تكمن في حال إنخرط رئيس الحكومة بتلك المزايدات. عندها يستحضر البلد ماضٍ مربك طغى على اجوائه من عام 2005 حتى 2016.