عندما يستذكر رفاق ​نبيه بري​ أيام الصبا والشباب، تجده الأكثر استحضارا لتفاصيل عاشها في كل مراحلها. مليئة جعبته بمغامرات رافقته من الدراسة الابتدائية وصولا الى تفوقه في اختصاص الحقوق جامعيا، مرورا بمحطات ​الخدمة العسكرية​ والتمرد المستمر على التصرفات الاقطاعية، وتمثيل الطلاب في المجالس المنتخبة ورئاسته لاتحاد طلاب ​لبنان​. تلك المسيرة التي تعج بالأحداث تؤكد المقولة التي أطلقت عليه: رجل لكل الفصول.

حمل بري خبرة دسمة واضعا اياها في خدمة حركة ​الامام موسى الصدر​ الذي رأى في بري سياسيا لامعا ومحاميا بارعا. عندما اختطف النظام الليبي الامام الصدر، واجهت مسيرة حركته صعوبات وتحديات، لكن الأمل تجدد بعد ترؤس بري الحركة عام 1980. رغم الانقلابات المتكررة عليه، كان ينجح بري دوما" باستناده الى الناس، بينما فشل كل من حاول قلب الطاولة عليه منذ تسلّم رئاسة الحركة حتى الاعوام القليلة الماضية. أين هم الآن؟.

كانت تتسع خبرة بري فيتحول من رئيس لحركة فقط، الى مسؤول حكومي رفيع بمناصب وزارية وقدرات سياسية فائقة، الى رئاسة لمجلس نيابي منذ ربع قرن، الى زعيم تجاوز الحدود المذهبية والطائفية والمناطقية، الى حكيم تعدى الاعتراف بحنكته الحدود الكيانية اللبنانية والعربية.

غريب أمر هذا الرجل! كلما زادت خبرته الحياتية وتألقت مسيرته السياسية، كلما اتسعت مساحات تواضعه. تجده شابا يحاكي الشباب وينادي لاعطائهم الدور الطليعي، ولا تلمس فارق العمر بينه وبين شاب عشريني أو ثلاثيني. تراه نصيرا للمرأة قولا وفعلا. يلتزم حدود الايمان بالانسان على قاعدة ارساها الامام الصدر يوما: الاديان كانت واحدة، تعبد الله الواحد، في هذا الكون الواحد، لخدمة الهدف الواحد الذي هو الانسان... علمته تجارب الحرب والسلم، كيف يجنّب لبنان الازمات بالحوار والتواصل، ويترجم مقولة: رابح –رابح لا خسارة في الشراكة الداخلية.

يعرف اللبنانيون أن رئاسته للمجلس النيابي حاجة للجميع، وأن قدرته على ادارة دفة الجلسات لا مثيل لها. يهادن أو يمازح أو يقارع أو يشاطر أو يصوّب أو يعارض، كل ذلك حيث يجب. في أصل الحكاية حماية للتشريع والبرلمان ولبنان. يقيس كل خطوة بميزان الذهب، من دون زيادة ولا نقصان.

فلنتخيل لو لم يكن نبيه بري رئيسا" للمجلس النيابي من عام 2005 حتى الآن. يوم عصفت بلبنان شرور الفتن. فلنتخيل لو لم يكن بري مفاوضا للغرب في عدوان تموز الاسرائيلي عام 2006. فلنتخيل لو لم يبتكر حوارا جامعا منذ عام 2006 ايضا، وحوارا شيعيا-سنيا كان الاول من نوعه في المنطقة التي مرت بظروف صعبة. فلنتخيل لو لم يكن بري حاملا على كتفيه هاجس حماية الساحة الاسلامية من الفتن المستوردة، فأطلق شعاره الشهير: أنا شيعي الهوية، سني الهوى... فلنتخيل لو لم يكن بري يدوّر الزوايا ويخرج ارانب الحلول و يبتكر التسويات.

خلال ربع قرن يتهافت مؤيدوه لرؤيته عندما تسمح الظروف، تسبقهم دموع الفرح تسيل بعفوية على وجنات شاب وصبية وامرأة و رجل وكهل. اللافت أن مساحة التأييد له تزداد في صفوف الشباب عاما بعد عام. هذا ما تلمسه في الاحتفالات والمناسبات الحركية و​الانتخابات الطالبية​ والنقابية.

خلال ربع قرن برهن بري انه حكيم وزعيم. ثقل تجربة يستند اليها اليوم رؤساء برلمانات دولية في تعاطيهم مع الازمات، فأغنى الاتحادات البرلمانية العربية والاسلامية بتجاربه المفتوحة في التشريع والسياسة والقيادة.

يوما بعد يوم تزداد الحاجة الى تلك الحكمة، ويصبح وجودها ضرورة لحماية بلد كاد يغرق أكثر من مرة بأزماته القاتلة، حتى قال له يوما مفكر عربي عريق: العرب أيضا بحاجة لحكمتك قبل فوات الآوان يا دولة الرئيس.