منذ فترةٍ بسيطة، كانت "​القوات اللبنانية​" تنتقد حزب "الكتائب" على ما تعتبرها، كما غيرها ممّن هم في السلطة، "شعبويّة زائدة"، خصوصًا أنّ رئيس الحزب النائب ​سامي الجميل​ كان مستعدًا للدخول شخصيًا إلى ​الحكومة​، لو حصل على الحصّة التي يريد، ألا وهي وزارة الصناعة، كما أنّها كانت تسخر من مقولة "معارضة من الداخل" التي كان يستخدمها "الكتائبيّون" لتبرير مشاركتهم في العديد من الحكومات المتعاقبة، ولا سيما الحكومة الأخيرة.

بالأمس، وجدت "القوات" نفسها على خطى "الكتائب". هي لم تقاسمه "لذّة" المعارضة في جلسة مناقشة وإقرار ​الموازنة​ في مجلس النواب فحسب، بل وجدت نفسها تتبنّى شعار "المعارضة من الداخل"، باعتبار أنّ "التهميش" الذي تتعرّض له من شركائها، الذي اعتقدتهم "الأقربين"، زاد عن حدّه، ليبقى السؤال: هل تذهب "القوات" حتى النهاية على خطى "الكتائب"، فتستقيل من الحكومة؟!.

رسائل سياسية...

بخلاف ما اعتقده كثيرون، لم يغرّد رئيس حزب "الكتائب" النائب سامي الجميل وحيدًا في سرب "المعارضة" خلال جلسة مجلس النواب الأخيرة لمناقشة وإقرار الموازنة. صحيح أنّ الجميل لعب دوره على هذا الصعيد، والذي كان قد بدأه في جلسات سابقة ولا سيما في جلستي إقرار قانون ​الضرائب​، إلا أنّ هناك من قرّر هذه المرّة أن يقاسمه "الصحن" نفسه، ولو كان في قلب "السلطة" بشهادة الجميع.

هكذا، سرقت "القوات اللبنانية" الأضواء من "الكتائب" في أكثر من محطّة خلال جلسة المجلس النيابي الأخيرة، تارةً من خلال مواقف النائب ​جورج عدوان​، التي رأى فيها البعض "قنابل"، خصوصًا لجهة تصويبه على حاكمية ​مصرف لبنان​، بل ذهابه لحدّ المطالبة بلجنة تحقيق، وتارةً أخرى من خلال مواقف النائب أنطوان زهرا، الذي قرأ البعض في أبعاد كلمته

هجومًا واضحًا على رئيس "​التيار الوطني الحر​" وزير الخارجية ​جبران باسيل​. ولعلّ المفاجأة الأكبر كانت بموقف "القوات" غير الداعم بالمطلق للموازنة، والذي ترجم سواء بالامتناع عن التصويت، أو بالاعتراض على مخالفة الدستور من خلال تشريع "ظروف استثنائية" يفترض أنّ زمانها قد انتهى.

وإذا كان النقل المباشر لجلسات الموازنة دافعًا لنواب "القوات" وزملائهم من سائر الكتل لإطلاق المواقف "الشعبية" خصوصًا أنّ موسم الانتخابات آتٍ، ولا بدّ من توظيف كلّ الاستحقاقات الفاصلة عنه لاستثمارها بأفضل طريقة ممكنة، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ رسائل سياسيّة بالجملة انطوت عليها مواقف "القوات"، واستهدفت بشكلٍ خاص كلاً من رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ ووزير الخارجية جبران باسيل، اللذين لا يتردّد بعض "القواتيين" من القول أنّهما "يحتكران" كلّ القرارات، وكأنّ الآخرين مجرّد "زينة" أو "ديكور" لا أكثر ولا أقلّ.

من هنا، يبدو واضحًا أنّ "القوات" أرادت تسجيل امتعاضها من الاستمرار في "تهميشها" من قبل من ظنّتهم "شركاءها الأقربين" في السلطة، فإذا بهم يقفزون فوقها ويتجاهلونها، في سياسةٍ تبدو أقرب ما تكون إلى الإقصاء والاستبعاد المقصود. ولهذه الأسباب، فإنّ "القوات" ارتأت أنّ جلسة إقرار الموازنة يمكن أن تكون مناسبة عملية مثالية لتقول لهم، من وحي الشعار الذي تبنّته في الآونة الأخيرة، "نحن هنا، وسنكون بالمرصاد لأيّ محاولاتٍ لتهميشنا تمهيداً لتحجيمنا، أياً كان مصدرها".

إنذار أخير؟

​​​​​​​بطبيعة الحال، يتخطّى امتعاض "القوات" بأشواطٍ مسألة الموازنة وقطع الحساب، وهو لا يعكس موقفاً مبدئيًا رافضًا لمخالفة الدستور، إلا أنّه يعبّر في واقع الأمر عن رفضٍ لتراكماتٍ كثيرة بدأت منذ ما قبل تشكيل الحكومة ولم تنتهِ فصولاً حتى يومنا هذا، وهو ما لا يستطيع "القواتيون" استيعابه أو قبوله، خصوصًا أنّهم سعوا منذ ما قبل دخولهم إلى الحكومة إلى

الإيحاء بأنّهم سيكونون الرقم الصعب فيها، وسيكونون قادرين على تغيير كلّ قواعد اللعبة والمعادلات.

فمن قضية "​تلفزيون لبنان​" العالقة، إلى ​التشكيلات القضائية​ الأخيرة، وما سبقها من تعييناتٍ إداريّة وغيرها، وجدت "القوات" نفسها خارجها بالضربة القاضية، ثمّة داخل "القوات" من يقول أنّ هناك خطوطاً حمراء تمّ تجاوزها، وأنّ "التيار الوطني الحر" يتعامل معها، بعد كلّ ما قدّمته له من تسهيلاتٍ وخدمات، وكأنّها مجرّد "رقم ثانٍ" أو "تابع" على الساحة، وبالتالي لا يعطيها من كيسه سوى في ما ندر، خصوصًا بعدما أظهرت الممارسة أنّ "التيار" يحاول احتكار كلّ شيء يخصّ الساحة المسيحية، تمامًا كما يرى "المستقبل" أنّ الساحة السنية هي مُلكه.

انطلاقاً من هذه المعطيات، يقول البعض أنّ "القوات" بسياستها هذه تقدّم "إنذاراً أخيراً" لشركائها لإشراكها في القرار، وإلا فإنّها ذاهبة لخياراتٍ تصعيديّة، قد تكون الاستقالة من بينها، وإن بقيت خارج الحسابات حتى إشعارٍ آخر، خصوصًا أنّ "القوات" تسعى اليوم للاستفادة من وجودها في الحكومة لرفع رصيدها الشعبي، استعدادًا للانتخابات المقبلة، علمًا أنّ هناك الكثير من الكلام الذي يُقال عن حرص وزرائها على تقديم نموذجٍ "يُقتدى" في العمل الحكوميّ، وهي تحصد إشاداتٍ على ذلك حتى من جانب ألدّ خصومها، وكلّ ذلك قابلٌ للتوظيف بطبيعة الحال عندما تحين ساعة الحقيقة.

إلا أنّ هذه المعادلة قد لا تكون طويلة الأمد، خصوصًا إذا ما استمرّ الوضع على حاله، إذ إنّ خيار الاستقالة من الحكومة ليس محذوفًا من قائمة الخيارات المطروحة بالنسبة للقيادة "القواتية"، بل كلّ ما في الأمر أنّ النظر عنه مصروفٌ في هذه المرحلة، ولكن قد تفرضه الاستعدادات للانتخابات، وهو ما بدأ يُتداوَل في الكواليس، علنًا وليس همسًا أو غمزًا. وفي هذا السياق، ثمّة من يرى أنّ مثل هذا الخيار من شأنه، إذا ما اتُّخِذ في الوقت المناسب، أن يترك وقعًا إيجابيًا لدى الرأي العام، خصوصًا إذا ما ارتبط بقضيّةٍ حسّاسة بالنسبة للجمهور، علمًا أنّ

البعض كان يقول أنّ رئيس الحكومة نفسه قد يعمد لمثل هذا الخيار، إلا أنّ هذا الأمر يبقى مستبعَدًا إلا في حال اتخاذ قرار بـ"تطيير" الانتخابات برمّتها.

نحن هنا...

حين أطلقت "القوات اللبنانية" شعار "نحن هنا" قبل مدّة، لم تفعل ذلك من عبث، بل لأنّ كيلها بدأ يطفح من ممارسة "الأقربين" في السلطة، ولأنّها تعتبر أنّ هناك من يحاول أن يستأثر بالقرار على حسابها.

وإذا كان ثمّة من يقول أنّ "القوات" أخطأت حين أرادت فرض نفسها كـ"شريك كامل" في السلطة، فإنّ البعض الآخر يرى أنّ مكانها هو أصلاً في المعارضة، وإلى جانب "الكتائب" بالتحديد، وهو ما قد تكون جلسة مجلس النواب الأخير بمثابة التمهيد العمليّ والإجرائيّ له...