ينطلق الانسان بطبعه الانساني من نزعة نحو التوافق والمصالحة قبل ان ينحو الى الشر، ولكن في كثير من الاحيان ينسى العديد من الناس هذا الطبع، ويعمدون الى بث روح التفرقة وافتعال المشاكل كي يبقى الناس متباعدين عن بعض. هذا على الصعيد الانساني، وفي لبنان يخلط اللبنانيون المشاعر الانسانية مع العمل السياسي، فأتباع الزعيم يقطعون كل صلة اجتماعية وانسانية مع من يختلف مع زعيمهم في الرؤية السياسية، ويصبحون على بعد خطوة واحدة فقط من الاستعداد لقتل الآخر لمجرد انه خصم في السياسة. من هنا، عانى اللبنانيون من نتائج الاحزاب السياسية والتي كانت في غالبيتها العظمى ميليشيات مسلحة عززت مفهوم قوة السلاح على حساب قوة السياسة والحجة والمنطق، وبعد المشاكل الطائفية بين الاحزاب ​المسيحية​ والاسلامية، اندلعت مشاكل ومواجهات بين احزاب الطائفة الواحدة من هنا وهناك، الا ان الخلافات بين الاحزاب المسيحية كانت الاقوى والاطول مدة.

وكي لا نعود الى الماضي مع ما يحمله من مآسٍ ومشاكل، نتوقف عند تقارب ​القوات اللبنانية​ و​التيار الوطني الحر​ الذي يحكى كثيراً عن انه يعيش حالياً فترة حرجة وقد يكون في مراحله الاخيرة على الرغم من انه صغير السن ولم يتجاوز السنة. وهذا التقارب ابعد الطرفين عن الاحزاب المسيحية الاخرى، الا انه برزت محاولة تقارب بين القوات وتيار ​المردة​، وهي تكاد تكون الاصعب نظراً الى حصول مواجهات دموية بين الطرفين سابقاً. وكانت المفاجأة انه وبعد انتظار طويل، بانت ملامح اقامة خطوط تواصل بينهما وهو امر ابهج الكثيرين من الطائفة المسيحية، وسرعان ما وجد هذا التقارب نفسه امام اول اختبار حرج بفعل الكلام الذي صدر عن النائبة ​ستريدا جعجع​ وما اعقبه من مواقف من الطرفين دعت الى استيعاب الوضع ومنع تدهوره.

هذه الوقائع تفرض طرح سؤال مفاده: هل مصالحة الاحزاب السياسية المسيحية نعمة ام نقمة؟ هي نعمة بالنسبة الى المسيحيين بشكل عام، لانهم باتوا بحاجة بالفعل الى ان يتوحدوا خلف حزب وليس رجل واحد، لانه ثبت بما لا يقبل الشك انه لا يمكن لرجل واحد مسيحياً كان ام مسلماً، ان يوحّد افكار طائفة واحدة او عدة طوائف، ولعل التجربة الاميركية في هذا السياق يجب اعتمادها في لبنان حيث يتنافس حزبان سياسيان

وفق الطروحات السياسية التي يطرحانها، وهذا الامر يوجب ​الغاء الطائفية​ السياسية في لبنان، وهي خطوة قد لا نعيش جميعاً لنشهد عليها.

النعمة في مصالحة المسيحيين ستتحول بعد وقت قصير الى نقمة، ان من داخل الاحزاب المسيحية نفسها، او من خلال تدخل الاحزاب من الطوائف الاخرى وحتى دول اخرى في الموضوع لضمان نشوب الخلاف الذي سيعيد الامور الى نقطة الصفر.

تخوّف ​المسلمون​ من تسلّم المسيحيين صلاحيات دستورية، فعمدوا الى نزع الكثير من هذه الصلاحيات، ولكن للاسف لم تأت هذه الخطوة بالنتيجة المرتجاة لانها ادت الى احباط مسيحي مشابه للاحباط الاسلامي الذي عاشوه في السابق، وعدنا من حيث بدأنا.

النقمة في ​المصالحة المسيحية​ سرعان ما تنتقل الى الاحزاب المسيحية بشكل عام التي لم تعتد على الانصهار ضمن بوتقة واحدة، كما ان الاحزاب في الطوائف الاخرى لن تكون راضية بطبيعة الحال لانها ستكون امام طريق مسدود في اختيار حزب مسيحي يساندها دون غيرها اكانت سنّية او شيعية...

ان التقارب الحاصل حالياً بين القوات والمردة والذي يجب ان يستمر ويتخطى الصعوبات، لا يعني بطبيعة الحال المفهوم الحقيقي للاحزاب المسيحية، كما ان تفاهم القوات والتيار لم يعنِ ذلك ايضاً، فحتى بين هذه الاحزاب الثلاثة ليس هناك من تفاهم تام، فالتوتر لا يزال على اشده بين المردة والتيار مثلاً، فيما الاختلاف الكبير في الرأي لا يزال يهدد بأن يتوسع بين التيار والقوات، ولا تزال الاحزاب المسيحية الاخرى خارج اطار اي تفاهم او توافق، وعليه يمكن الحديث عن مصالحة بين احزاب وليس مصالحة عامة مسيحية، على امل ان نصل الى مرحلة يتفق فيها الجميع على وجوب الخروج من قوقعة الاحزاب وفتح ابواب الحزب السياسي الواقعي والحقيقي.