فرضت التطورات في الشمال السوري نفسها على كل التحاليل السياسية والأكاديمية، وتخوّف البعض من أن تكون الترتيبات التي حصلت ومسار التسوية في آستانة ستؤدي إلى التقسيم في سورية. لعل هواجس التقسيم تتبدى في الهجوم الذي شنّه ​الأكراد​ صوب ​دير الزور​ مسابقين ​الجيش السوري​ للوصول إلى الحدود ​العراق​ية - السورية، كما الترتيبات والتسوية التي عقدوها مع "داعش" للسيطرة على حقل عمر ​النفط​ي، وهو من أكبر الحقول النفطية في سورية، بالإضافة إلى تحرير ​الرقة​ وإطلاق اسم كردي عليها؛ "مدينة اوجلان". كما يشار إلى التقسيم باعتباره واقعاً انطلاقاً من دخول ​الجيش التركي​ إلى إدلب، ومحاولة توسيع مناطق نفوذه إلى أقصى حد ممكن.

بالتأكيد، يمكن استشعار الخطر على وحدة سورية وأراضيها من التوسُّع الكردي والتركي واحتلال الأراضي السورية، بالإضافة إلى الدعم الذي يتلقاه الأكراد من الأميركيين، خصوصاً القواعد العسكرية الأميركية التي تنتشر في مناطق الأكراد، لكن التطورات التي حصلت في العراق بعد حصول الاستفتاء ومبالغة ​أكراد العراق​ في وهم فائض القوة لتحدي ​الحكومة​ المركزية في ​بغداد​، في ظل نظام إقليمي معادٍ، ستدفع أكراد سورية إلى الاتعاظ من تجربة إخوانهم أكراد العراق.

لعل وضع الأكراد في العراق كان الأفضل على الإطلاق في المنطقة، إذ إنهم يتمتعون بالحكم الذاتي منذ عام 1991، وقد حظوا بحماية أممية من خلال قرار ​مجلس الأمن الدولي​ رقم 688، والذي حظّر على الطيران العراقي (خلال عهد ​صدام حسين​) التحليق فوقها، كما تمّ تحديد ما سمي "​الخط الأزرق​" على الحدود بين ​كردستان​ والمناطق العراقية، وقد مُنع ​الجيش العراقي​ من تجاوزه، وبعد احتلال الأميركيين للعراق عام 2003، بدأ الأكراد بقضم المناطق العراقية، وكانت اللحظة المؤاتية لهم هي انخراطهم في الحرب على "داعش"، فتوسّعوا وسيطروا على محافظات ​نينوى​ و​كركوك​ وصلاح الدين و​ديالى​، بالإضافة إلى سيطرتهم على الحدود والمنافذ الدولية، كالمطارات والمعابر البرية مع ​تركيا​ و​إيران​، وقاموا ببيع النفط العراقي والاستفادة المادية من تصديره بدون العودة إلى الحكومة المركزية في بغداد.

ومؤخراً، مع بدء العمليات العسكرية العراقية ضد الأكراد، كردٍّ على الاستفتاء الذي أجراه ​مسعود البرزاني​ بدون موافقة السلطة المركزية العراقية، بدأت تتهاوى مكاسب الأكراد التي حصلّوها على مدى 14 عاماً، أي منذ قدوم الأميركيين في العام 2003 ولغاية اليوم؛ فقد طردت القوات العراقية ​البشمركة​ من معظم المناطق المتنازع عليها، خصوصاً من كركوك الغنية بالنفط، والتي تشكّل ما يقارب 85% من الطاقة الإنتاجية النفطية في ​إقليم كردستان​ العراق، كما سيطرت القوات العراقية على المعابر التي تربط الإقليم بالخارج، ومنها معبر فيشخابور (سيمالكا من الجهة السورية)، والذي يقع على مثلث هام بين العراق وسورية وتركيا، وهو المعبر الذي يربط أكراد العراق بأكراد سورية، والممر الوحيد لأكراد سورية إلى الخارج (من خلاله كان يتم تزويدهم بالسلاح منذ 2011).

إذًا، بالرغم من كل القوة التي تمتع بها أكراد العراق، لم يستطيعوا الصمود في وجه السلطة المركزية في بغداد، خصوصاً في ظل خط أحمر إيراني - تركي يمنع تشجيع أي نزعة انفصالية كردية في المنطقة، فكيف بأكراد سورية الذين يسيطرون على أراضٍ عربية سورية، ويطالبون بدولة في الشمال السوري (يسمونها كردستان الغربية)، والتي ليس لها أي ذكر في مستندات ووثائق القومية الكردية.

ثم من المعروف أن البرزاني كان حليفًا ل​رجب طيب أردوغان​، وبالرغم من ذلك وقف الأتراك سداً منيعاً أمام الاستقلال الكردي العراقي، فكيف بالأكراد السوريين الموالين لأوجلان، والذين يُعتبرون من الأجنحة الكردية المعادية للدولة التركية، ناهيك عن أن الكرد السوريين لا يملكون رؤية سياسية واحدة، فمنهم من هو حليف النظام ومنهم من يؤيد المعارضة، وبمعظمهم يسيرون في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، والتي لن تضحي بحليفها التركي لتعزيز حلم دويلة كردية غير قابلة للحياة أصلاً، لانها دولة داخلية ومحاطة بأعداء من كل حدب وصوب.

في النتيجة، لن يكون أمام الكرد السوريين سوى المطالبة بنوع من اللامركزية ضمن سورية الموحَّدة، وهو الحل الذي يدعمه الروس، لكن الخطورة تبقى في نوايا أردوغان في الشمال السوري، والتي لا تبشّر بالخير انطلاقاً من تاريخ أردوغان نفسه، ومن تاريخ الأتراك مع سورية، فتجربة الاسكندرون ما زالت ماثلة للعيان، والخوف كل الخوف أن تتحول المناطق التي سيطر عليها الجيش التركي في الجغرافيا السورية إلى جزء من الجغرافيا التركية بحكم الأمر الواقع.