أكثر فأكثر يزداد أعداد المُتسوّلين على التقاطعات المُروريّة في لبنان وعلى الطرقات وفي الشوارع التي غالبًا ما تشهد زحمة سير خانقة، والمُفارقة أنّ الأغلبيّة الساحقة من هؤلاء يحملون الجنسيّة السوريّة وبعضهم يحمل الجنسيّة الفلسطينيّة وقلّة قليلة من اللبنانيّين. وعلى الرغم من أنّ ظاهرة المُتسوّلين تُشكّل جزءًا من الأزمات المُتعدّدة التي سبّبها ويُسبّبها ​النزوح السوري​ إلى لبنان بشكل خاص، فإنّ مُعالجتها يُمكن أن تكون مُنفصلة عن مُعالجة أزمة النزوح ككل، لأنّ إستمرارها وتركها تتمادى أكثر فأكثر يتسبّب بأضرار مُختلفة، أبرزها:

أوّلاً: إذا كان صحيحًا أنّ بعض هؤلاء المُتسوّلين يُعانون من فقر مدقع وهم يحتاجون ولوّ لحفنة من النُقود لسد جوعهم، فإنّ الأصحّ أنّ أغلبيّتهم هي فريسة عصابات مُنظّمة تقوم بإستغلال النساء والأطفال وتُرغمهم على التسوّل، قبل أن تسلبهم الأموال التي يُحصّلونها يوميًا، لصرفها على ملذّاتها الشخصيّة وربما على إنحرافاتها. وهذا الأمر واضح من خلال السيارات التي تُوزّع هؤلاء على التقاطعات وفي الطرقات بشكل مُنظّم صباح كل يوم، مع "عدّة الشغل"– إذا جاز التعبير، وفي طليعتها الأطفال الرُضّع، قبل أن تعود وتُقلّهم مع حلول أولى ساعات المساء.

ثانيًا: إنّ وجود المُتسوّلين بهذا الشكل العشوائي والمُفرط في الشوارع اللبنانيّة، يُشوّه ما تبقّى من وجه لبنان الحضاري أمام قاطنيه وزوّاره على السواء، ويُعرّض هؤلاء المُتسوّلين لا سيّما الأطفال الصغار منهم الذين يتنقّلون بشكل شبه غير مرئي بين السيارات لخطر الدهس، ويتسبّب بعرقلة السير أكثر فأكثر نتيجة حرص بعض السائقين على التأكّد من خلوّ مُحيط سيّاراتهم من وجود أي طفل قبل الإنطلاق مُجدّدًا، خوفًا من التورّط في حادث دهس يجلب كل أنواع المتاعب القانونيّة للسائق إضافة إلى تأنيب الضمير.

ثالثًا: إنّ هؤلاء الأطفال الذين يُتركون في الشارع من الصباح إلى المساء، تحت الشمس الحارقة وتحت الأمطار، مع فُتات من المأكل والمشرب لساعات طويلة، لا يمكن أن يتجرّعوا سوى الحُقد الدفين والذي لا يُمكن محوه مع مرور الزمن، وذلك على الناس والمُجتمع واللبنانيّين عُمومًا، خاصة وأنّ مُعاملتهم تكون بعدائية من قبل الكثير من السائقين، إمّا بسبب عصبيّة زائدة بسبب زحمة السير وإمّا إشمئزازًا من إنتشار هذه الظاهرة المزعجة على كل تقاطع وفي كل طريق. وبالتالي، إنّ ظروف هؤلاء المُتسوّلين تُحضّر الأجواء لزيادة أعداد المُنحرفين وأفراد العصابات والعاملين في مجال الدعارة وربّما المُنتمين إلى الجماعات الإرهابيّة على المدى غير البعيد.

رابعًا: إنّ مُشغّلي هؤلاء المُتسوّلين يستغلّون الأطفال الرضّع أبشع إستغلال بحيث يتمّ نقلهم من يد إلى يد، حتى من قبل أطفال آخرين، بدلاً من أن يكونوا في بيئة صحّية فيها الحد الأدنى المطلوب من شروط الحياة الكريم، ويستغلّون الأطفال الصغار أبشع إستغلال أيضًا، بحيث وبدلاً من تسجيلهم في المدارس المفتوحة أمامهم بشكل مجاني، يُجبرونهم على التسكّع في الشارع بحثًا عن ألف ليرة ورقيّة هنا وعن أقلّ من ذلك من القطع المعدنيّة هناك.

والغريب أنّ تدابير ​الدولة اللبنانية​ لمُعالجة "ظاهرة المُتسوّلين"، أو بالحري "جريمة التسوّل"، كانت جزئيّة ومحدودة في الزمان والمكان خلال السنوات الماضية، ولا تدوم سوى لبضع ساعات، علمًا أنّ القوانين اللبنانيّة واضحة في مُعاقبة كل من يدفع القاصر للتسوّل بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وبغرامة تتراوح بين الحد الأدنى للأجور وضعفه (المادة 618 من قانون العُقوبات)، وفي حال كان المُتورّطون من غير اللبنانيّين يُمكن طردهم من لبنان فورًا (المادة 621). حتى أنّ ​القانون اللبناني​ يسمح بتصنيف فعل الإرغام على التسوّل كنوع من جرائم الإتجار بالبشر، لجهة إستغلال ضعف هؤلاء، وهذا ما يرفع العُقوبة بشكل كبير، لجهة السجن ما بين 5 و15 سنة في حال الإدانة.

وبالتالي، من الضروري أن تتخذ الحكومة اللبنانيّة قرارًا شُجاعًا وسريعًا بالمُباشرة بمُعالجة مُشكلة التسوّل في الشوارع اللبنانيّة، وهذه المُعالجة لا تبدأ بمُلاحقة الأطفال الذين يجري إستغلالهم في الشوارع وبين السيارات من قبل رجال قوى الأمن، وإنّما بتشديد العُقوبات على العصابات التي تُشغّلهم، لجهة توقيفهم وسجنهم ومنعهم من تكرار فعلتهم تحت أي ظرف.