لا يمكن لاحد ان يدّعي انه كان يتوقع الخطوة المفاجئة التي اعلنها رئيس الحكومة المستقبل ​سعد الحريري​ من ​الرياض​، أكان محللاً او متابعاً او حتى "منجّماً"، ولم يكن هناك اي مؤشر على اقدام الحريري على هذه الخطوة، ومن سمع كلامه قبل اقل من 24 ساعة صعق بما قاله هو نفسه من العاصمة السعودية. وهناك من قارب هذا الموضوع باستقالة وزراء ​التيار الوطني الحر​ و​حزب الله​ من ​حكومة الحريري​ السابقة عام 2011، واعتبر ان الحريري رد التحية بمثلها بشكل غير متوقع.

في الشكل، بدا ان الحريري كان مستعجلاً لاعلان الاستقالة ولم يتسنّ له الوقت لبحثها مع احد وفق ادلة عدة: اولها عدم التنسيق مع رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ او رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، والطلب بعدها من مناصريه عدم اقامة تجمعات لتأييده، اضافة الى انه اذاع بيانه عبر وسائل التواصل الاجتماعي وليس عبر دعوة وسائل الاعلام الى مؤتمر صحافي رغم اهمية الخطوة والحدث، بدليل تصدرها وسائل الاعلام المحلية والاقليمية وحتى الدولية.

كما انه في الشكل ايضاً، كان يمكن تصوير البيان بشكل غير محترف، وحصره بوسيلة اعلامية واحدة فقط، ما دفع الكثيرين للشك بصحة هذه الانباء اولاً، الى ان تم نشر الفيديو.

اما في المضمون، فيمكن القول ان الحريري نسف كل ما قام به منذ دخوله التسوية السياسية وحتى الآن، وعاد الى نقطة الصفر، ولكنه ضمّن كلمته بعض النقاط التي تعيد لبنان الى الوراء، حيث المح الى ان المرحلة باتت تشبه تلك التي سبقت اغتيال والده وقال ان حياته مهددة، وهذا القول كفيل بمناقضة ما قاله اكثر من مرة في الآونة الاخيرة من ان لبنان ينعم بالامن والاستقرار، وانه استطاع التغلب على التحديات الامنية الكبيرة التي واجهها في منطقة مشتعلة، وجعل الجميع يشكك بقدرة لبنان على الحفاظ على امنه واستقراره.

نقطة اخرى نسفها الحريري في كلمته وهي المتعلقة بالعلاقة مع حزب الله، حيث كان الحوار بين المستقبل والحزب قائماً ولو كان معلقاً منذ فترة، الا ان القنوات لم تكن مغلقة والتواصل كان متاحاً عند الضرورة. اما العلاقة مع ايران، فأتى هذا الكلام بعد ساعات معدودة على لقائه في لبنان مستشار المرشد الايراني للشؤون الدولية ​علي اكبر ولايتي​، ولو كان هناك من موقف مسبق من ايران، لما استقبله الحريري ولكان وجد ذرائع كثيرة لتجنب حصول اللقاء.

عملياً، وضعت هذه الخطوة لبنان في وضع حرج، فمن الناحية السياسية عادت الحرارة الى الصراع السني-الشيعي بعد فترة من الركود ومراوحتها مكانها، ومن غير المستبعد حصول مشكلات متفرقة في مناطق لبنانية تعكس اجواء هذه الحرارة.

ومن الناحية السياسية، بات تكليف اي رئيس حكومة تشكيل حكومة جديدة دونه عوائق كبيرة، وقد تتكرر مرحلة تكليف ​تمام سلام​ حيث بقي اشهراً عدة دون القدرة على تشكيل حكومة، وهو امر لا يصب في مصلحة لبنان.

كما ان استقالة الحريري، وضعت جميع المسؤولين اللبنانيين امام التراجع عن كلامهم بحتمية حصول الانتخابات النيابية في موعدها، حيث بات الشك كبيراً في امكان اجرائها وقد نشهد تمديداً اضافياً للمجلس النيابي الحالي...

ولا بد ايضاً من ذكر ما ستحمله هذه الخطوة من تأثير سلبي على قضية عودة ​النازحين السوريين​، حيث كان لبنان قد قطع شوطاً دبلوماسياً مهماً في هذه المسيرة، لكنه اليوم سيشهد تراجعاً كبيراً في مساعيه.

سبب واحد قد يجعل الخطوة منطقية ومفهومة، وهو ابلاغ الحريري ان هناك محاولة لاغتياله، وهذا بذاته قد يجعله يستعيد مشاهد من اغتيال والده، ويضعه في موقع الخائف على حياته والمتبرىء من كل التزام سابق. انما السؤال المطروح هو هل فعلاً كانت هناك محاولة اغتيال، ومن يقف وراءه اذا كان صحيحاً، وما هي مصلحة الحزب (كما تم اتهامه وايران) من هذا الامر؟.

قال الحريري ان لبنان اصبح في عين العاصفة، ولكن خطوته لم تساهم في اخراجه منها، بل دفعته الى عمقها ووضعته في مكان حرج، وسيكون لبنان امام تحديات اضافية عليه ان يتخطاها بعد ان قطع اشواطاً مهمة على طريق الاستقرار. ولكن، وفق المؤشرات المنطقية والظاهرة، فإن لبنان بعيد عن البلبلة العسكرية، ولكنه سيغرق في بلبلة ومتاهة سياسية، فالشأن العسكري والامني لن يقبل احد بخوضه لانه سيؤدي هذه المرة الى تغيير شامل في المنطقة ككل، ولن تنحصر مفاعيله في لبنان فقط وهو امر لن توافق عليه القوى الغربية، في ظل الاثمان السياسية والعسكرية التي دفعتها دول كبرى وفي مقدمها روسيا للوصول الى الوضع الحالي ميدانياً.

في المقابل، كان ثمن هذه الخطوة، اعادة لملمة زعماء الطائفة السنّية في لبنان، وباكورتها لقاء جمعه بالوزير السابق ​اشرف ريفي​ الذي كان رأس حربة في مناهضته للحريري وللقرارات التي اتخذها، وهدد عرشه السنّي اكثر من مرة قبل ان يعود الحريري الى الساحة الرسمية والسراي الكبير ويتسلم زمام الامور.

خطوة الحريري المفاجئة، عمدت الى زيادة الضغط على حزب الله، ولكنها اتت لتزيد الضغط على لبنان ككل، وتضعه امام مصير مجهول في انتظار ما ستسفر عنه التسوية الشاملة في المنطقة التي باتت على الابواب.