بغضّ النظر عن حجم كل ما قيل ويُقال عن أسباب وخلفيّات إستقالة رئيس ​مجلس الوزراء​ ​سعد الحريري​، فإنّ هذه الإستقالة حصلت وصار لزامًا التعامل معها كأمر واقع. والأسئلة التي تفرض نفسها في ظلّ هذا التطوّر البالغ الأهميّة، تُختصر بالتالي: ما هي الأهداف المنشودة من الجهة التي دفعت إلى هذه الإستقالة، وماذا سيحصل في ​لبنان​ في المرحلة المُقبلة، وكيف سيتعاطى الرئيس عون مع هذا التحوّل؟.

بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ أمين عام "​حزب الله​" السيّد ​حسن نصر الله​ حاول في خُطابه أمس تفريغ الإستقالة من أهدافها، مُشدّدًا على ضرورة الهدوء والترويّ في التعاطي مع هذا التطوّر، لأنّه يعلم أكثر من سواه أنّ الهدف الأبرز لهذه الإستقالة ليس مثلاً دفع رئيس الجُمهورية العماد ​ميشال عون​ إلى العودة إلى خطّ سياسي وسطي سبق أن جرى التوافق عليه عشيّة إنتخابه رئيسًا من قبل "ًصُقور" من قوى "​14 آذار​"، ولا وقف سياسة التطبيع مع النظام السوري على سبيل المثال لا الحصر، ولا أيضًا التعامل مع رئيس الحُكومة بجدّية أكبر وإحترام قراراته الداخليّة وسياساته الخارجيّة، إلى ما هناك من أمثلة ثانويّة. وأمين عام "حزب الله" يعلم تمامًا أكثر من سواه، أنّ الهدف الأبرز من الإستقالة يتمثّل في نقل المُواجهة إلى عُقر دار "حزب الله"، بعد أن كانت مُختلف القوى التي تناصبه العداء تُواجهه في جبهات خارجيّة، من ​سوريا​ إلى ​اليمن​ وغيرهما. أمّا اليوم، فالقرار المُتخذ على المُستويين الإقليمي والدَولي يتمثّل بمُواجهة "الحزب" في لبنان، وهذه المُواجهة ليست عسكريّة كما حاول البعض ترويجه في إشاعات وأقاويل لا تخلو من السخافة، بل هي مُواجهة سياسيّة ومعنويّة، إضافة إلى كل الضُغوط الإقتصادية والمالية والشعبيّة المُرافقة. وللتذكير فإنّ "حزب الله" سعى جاهدًا في السنوات الماضية للإلتفاف على الإنقسام الداخلي في لبنان بشأن سلاحه وتدخلاته ومعاركه الخارجيّة، ونجح في تحييد هذا الأمر عن التداول بشكل كبير، وآخر ما يُريده "الحزب" هو العودة إلى نقطة الصفر على هذا المُستوى، لا بلّ إلى ما دون الصفر هذه المرّة، لأنّ كل المعلومات المُتوفّرة عن طبيعة المُواجهة السياسيّة تؤكّد أنّ الصراع السعودي-ال​إيران​ي بكل أبعاده السياسيّة والمذهبيّة والعرقيّة، إلخ. سينتقل إلى الساحة الداخليّة اللبنانيّة، وإستقالة الحريري ما هي إلا رأس جبل الجليد حيث أنّ "الكباش السياسي" سيأخذ أوجهًا عدّة في المُستقبل القريب، ما يعني أنّ كل مُحاولات "حزب الله" تحييد "تيّار المُستقبل"-بما يُمثّله من ثقل داخل البيئة السُنّية في لبنان ومن إمتداد عربي أيضًاً، عن صراعه الإقليمي، لن يَعود مُمكنًا بعد اليوم.

وبحسب المعلومات المُتوفّرة، فإنّ رئيس "تيّار المستقبل" سعد الحريري ومُمثّلي "حزب الله" لن يجتمعا في حكومة واحدة في المُستقبل، بحيث أنّ الحُكومة المُقبلة إمّا لن تكون برئاسة الحريري وإمّا لن يكون فيها وزراء ممثّلين عن "حزب الله"، مع ترجيح أن يُؤدّي هذا "الكباش" إلى عدم تشكيل حُكومة في المدى المنظور، خاصة وأنّ قلّة قليلة من الشخصيّات السنّية في لبنان ستقبل بمُعاداة عمقها العروبي والمذهبي، وبالمُشاركة في حُكومة يتمّ إخراج "تيّار المُستقبل" منها. ويُمكن القول إنّ الضغوط الخارجيّة على "تيّار المُستقبل" كبيرة لإنهاء زمن التعامل الرمادي من قبله مع "حزب الله"، حيث أنّ مفاعيل التسوية الأخيرة بين "المُستقبل" و"الحزب"، والتي ضمّت أيضًا أطرافًا أخرى وفي طليعتها "التيار الوطني الحرّ" سقطت وإنتهت، حيث لن يكون بمقدور "تيّار المُستقبل" بعد اليوم الإستمرار بقبول التعامل معه كطرف سياسي مهزوم داخليًا، والإستمرار بقبول التعامل مع السعودية كدولة مهزومة إقليميًا، وهو لن يقبل أيضًا بأن يُواصل "الحزب" سياسته الخارجيّة الهُجوميّة والمُعادية للسعودية ولأطراف عربيّة أخرى عدّة، وأن يتصرّف معه داخليًا وكأنّ الأمور بألف خير.

وبالنسبة إلى أسلوب تعاطي رئيس الجُمهوريّة مع هذا التحوّل الذي يُهدّد عهده، لناحية الإنتقال من مرحلة الإستقرار والإنجازات، إلى مرحلة التوتّر والصراع السياسي الحاد الذي لا ينتهي، فإنّ الخيارات أمامه صعبة، حيث سيُحاول بداية إصلاح ما إنكسر وإقناع الجميع بالعودة إلى صيغة تهدئة داخلية "على الطريقة اللبنانيّة"، باعتبار أنّ التوصّل لتعهّدات سياسيّة واضحة تجعل لبنان خارج الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران من المُستحيل. وفي حال الفشل في ذلك، سيكون الرئيس عون في موقف حرج، بحيث لن يعود أمامه سوى إمّا ترك الأمور تسير بأقلّ خسائر مُمكنة حتى أيّار المُقبل مع السعي بجُهد لعدم تطيير موعد ​الإنتخابات النيابية​، وإمّا الإنتقال بلبنان إلى موقع سياسي مُنحاز ضُدّ السعوديّة، في حال تمكّن من جمع أغلبيّة نيابيّة لتشكيل حُكومة جديدة بدون "تيّار المُستقبل"، وفي الحالين الأمر صعب جدًا.