لطالما أتقنت السعودية استخدام «القوة الناعمة» وإخفاء ما هو سلبي في سياساتها في المنطقة تحت الوسائل المالية والإعلامية، وهي وسائل مشروعة في مدّ النفوذ في العلاقات الدولية، وطغت استطراداً على استخدامها النفوذ الديني الذي تمثَّل في تمويل انتشار الفكر الوهابي ومدارسه في شتى أنحاء العالم، والذي شكّل الصاعق في تفجير التطرف في الكثير من الدول. وكان ذلك مرتبطاً بطابع «التحفظ» والسكون الذي ميّز السياسات السعودية في مرحلة ما قبل اجتياح ​العراق​ عام 2003.

في لبنان اختلفت هذه «القوة الناعمة» عبر النفوذ المالي والسياسي، عن السياسات ال​إيران​ية والسورية حيال هذا البلد، والتي كانت تستخدم عامل «القوة الصلبة»، متمثلةً بالدعم العسكري والأمني لقوى تقاوم إسرائيل لكنها منظمات «غير دولتية» لا تنسجم ضمن منطق احتكار العنف الذي تقوم عليه سيادة الدولة، إضافة إلى السطوة السورية التي مورست عبر الأمن والهيمنة بالوجود العسكري حتى 2005.

وكانت هذه المقاربة السعودية للبنان تحديداً، عاملاً من عوامل ابتعاد السعودية عن صورة «الخصم» أو «العدو»، ومن ضمن ذلك البيئة ​المسيحية​ اللبنانية. فقد وضعت هذه البيئة في إطار «الخصم» لها ولوجدانها، الأنظمة والأطراف العربية التي اعتبرتها أنها تهيمن على لبنان أو تضرب سيادته على أرضه، من مصر الناصرية في الخمسينيات إلى ​منظمة التحرير الفلسطينية​، وصولاً إلى ​سوريا​ الأسد وإيران الخمينية في خلال الحرب والفوران الثوري الإسلامي الذي ميَّز حركة «حزب الله» في تلك المرحلة.

في المقابل، وجدت القوى المسيحية اللبنانية في الأنظمة المحافظة العربية سواء الملكية منها أو الجمهورية، حلفاء وتفهماً وأحياناً كثيرة دعماً، من ​الأردن​ والسعودية في دورها في أواخر السبعينيات والثمانينيات، ولاحقاً في اللجنة الثلاثية العربية السعودية المغربية الجزائرية عشية الطائف.

لم يكن خطرُ انتشار ​الوهابية​ غائباً عن تفكير دوائر فكرية وحزبية سياسية مسيحية لبنانية في خلال الحرب. لكن هذا الخطر لم يكن معروفاً شعبياً لأسبابٍ عدة، فقد تم تفجيره في الساحة الأفغانية بعيداً من العالم العربي، ومنها لأنَّ التطرف ارتبط بجماعات ​الإرهاب​ في مصر في بدايات عملياتها، فضلاً عن أن «الأصولية» الإسلامية آنذاك حملت لواءها إيران بعد الثورة الإسلامية وشعارات «تصديرها»، وغيرها من العوامل.

كل ذلك، جعل من جدار «السياسات الناعمة» سميكاً، يحجب مخاطر تصدير التطرف الوهابي، واستخدام هذا السلاح في إطار سياسات ​الرياض​ الإقليمية والإسلامية، مما يعني تالياً، عدم بروز خطر مباشر على سيادة لبنان وحرياته واستقراره من السياسات السعودية، تحديداً من ناحية عدم توضح صورة هذا الخطر وشكله.

بدايات تصدعاتٍ في هذا الجدار، برزتْ خاصة مع الفالق الزلزالي الذي خلفه الاجتياح الأميركي للعراق، وشق الطريق أمام تسعير الصراع الإيراني السعودي وتداعياته مذهبياً. خرجت السعودية من سياساتها التقليدية المتحفظة في مواجهة التمدد الإيراني نحو سياسة هجومية في الخليج والمشرق، توّجت لاحقاً في المشاركة في الحرب على سوريا، ما أسقطَ عنها تالياً طابع التحفظ في السياسة الخارجية واقتصار وسائلها على «القوة الناعمة».

ومن تداعيات هذه السياسة، اهتزاز الوجدان المسيحي اللبناني التقليدي، والذي برز خاصةً مع حالٍ إنكارية مرضية سادت القوى والنخب المسيحية الحليفة للسعودية والمنضوية في ما عُرف بـ14 آذار إزاء الإرهاب التكفيري. فبات العدو الأول والأخطر لسيادة لبنان وأمنه وحرياته، بما هو نتيجة لتلك السياسات الإقليمية، وبما هو ابنٌ شرعي للفكر الديني المتشدد، ولاستخداماته الإقليمية والدولية، وبالتالي تحولت المخاطر في هذا الوجدان، وتوازى ذلك مع سياسة انفتاحية نقدية للخيارات السابقة قادها الرئيس ميشال عون كان بدأها تحديداً منذ خطابه في ذكرى الاستقلال في ​باريس​ عام 2004، في استشراف للتحولات الاستراتيجية في المنطقة ومواكبةً لها.

في الخلاصة، ومع الضربة التي وجهت راهناً لرئيس حكومة لبنان وزعيم التيار الأقوى تمثيلاً لسُنّته، يصل انحدار صورة المملكة العربية السعودية في لبنان إلى أقصاه، ولم يعد بإمكان أي قوة سياسية حليفةٍ لها أن تتباهى بأن التدخل السعودي لا يمسّ سلباً لبنان، وأنه لا يشكّل تهديداً لسيادته وأمنه.