جاءت إستقالة الحريري على نحو مفاجئ يوم 4 تشرين الثاني 2017 وذلك في بيان مقتضب أذاعه من المملكة العربية السعودية. عدة أيام مضت على هذه الخطوة ولا يزال الغموض يلفها.

من حيث الشكل، كثيرون هم من اعتبروا الاستقالة انتهاك صارخ لسيادة ​لبنان​ ولدستوره. أما من حيث المضمون، فهناك شبه إجماع لبناني ودولي على انها جاءت ملتبسة ولم تكن لتحصل لولا الضغوط الكبيرة التي تعرض لها الحريري اثناء سفره الى المملكة العربية السعودية. امام هذا المشهد الفريد من نوعه سؤال مهم يطرح نفسه: هل بإمكان اي دولة أن تعمد بكل حرية الى توقيف أو إعتقال رئيس حكومة بلد أخر وممارسة شتى الضغوط عليه وصولا لدفعه إلى تقديم استقالته؟.

للاجابة على هذ السؤال يجب علينا النظر إلى القانون الدولي العام الذي يهدف بطبيعة الحال إلى تنظيم العلاقات بين مختلف الدول والمنظمات الدولية.

ولكن قبل الأجابة، يجب التذكير بأن لبنان، وبالرغم من صغر حجمه ومشاكله التي لا تحصى، هو دولة سيادية أسوة بباقي الدول كبيرة كانت أم صغيرة. فلا شك بأن لبنان يمتلك جميع المقومات والمواصفات الاساسية لأي دولة مستقلة: نظام سياسي وسيادي، شعب واحد، وحدود برية بحرية وجوية. عدا ذلك، يعتبر لبنان عضوا مؤسسا وفاعلا في ​الامم المتحدة​ و​جامعة الدول العربية​. ولا بد التذكير إلى أن لبنان قد انتخب مرتين ليكون عضوا غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

في المقابل، يؤكد ميثاق ​الأمم المتحدة​ على مبدأ المساواة بين جميع الأعضاء. إذ تنص المادة 2 من هذا الميثاق على المساواة بين جميع الدول المنتسبة للأمم المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، جاءت العديد من المعاهدات والإتفاقات الدولية لتكرّس مبدأ المساواة بين الدول وتنظيم العلاقات الودية بينها. ‏ففي العام 1961 تم إنشاء اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، تبعها في العام 1964 اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية. أما العام 1969 فقد شهد إنشاء معاهدة نيويورك للبعثات الخاصة. تهدف هذه المعاهدات الى تحديد الإجراءات والضوابط الخاصة بالعمل الدبلوماسي، وتبين الحقوق والواجبات بأفراد البعثات الدبلوماسية، كما أتت على تحديد عدة مفاهيم كالحصانة الدبلوماسية. فعلى سبيل المثال تنص المادة 21 من معاهدة نيويورك للبعثات الخاصة على أن يتمتع رئيس الحكومة ووزير الخارجية وغيرهما من ذوي الرتب العالية اذا اشتركوا في بعثة خاصة، بالتسهيلات والإمتيازات والحصانات المقررة في القانون الدولي.

وبالعودة إلى المشهد اللبناني، لم يكن الحريري قبيل استقالته على رأس بعثة لبنانية رسمية. والكل يعلم إنه توجه بمفرده إلى السعودية نظرا للعلاقة الوطيدة التي تجمعه بالملك والأمراء السعوديين. وبالرغم من ذلك فإنه يبقى رئيس حكومة لبنان بنظر القانون الدولي. فبالإضافة الى المعاهدات التى سبق ذكرها، هناك عرف دولي قديم يقضي بعدم التعرض الى رؤساء الدول عندما يكونون خارج البلاد ولو كانوا في زيارة خاصة. وقد أصدرت محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة في العام 2002 حكما شهيرا متعلّق بمذكرة التوقيف التي صدرت عن القضاء البلجيكي بحق وزير خارجية جمهورية الكونغو الديمقراطية لإتهامه بالتحريض على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. في قرارها النهائي اعتبرت المحكمة بأن إصدار مذكرة توقيف بحق وزير دولة هو عمل يتعارض مع القانون الدولي مكرّسة الحصانة المطلقة لممثلي الدول أمام محاكم الدول الأخرى أكانت دول كبرى أو حتى عظمى.

من مجمل ما تقدم يتبين إذن بأن رئيس وزراء لبنان يتمتع بالحصانة المطلقة، ولا يحق لأي دولة ان تقرر توقيفه وإحتجازه لأن هذا الفعل هو مرفوض من وجهة نظر القانون الدولي ويعتبر خرقا واضحا، ليس فقط للسيادة اللبنانية انما ايضا للمواثيق والأعراف الدولية.

في هذه الحال ما هي الخيارات القانونية المتاحة للبنان لإعادة الاعتبار لسيادته ولمنع تكرار هذا الفعل من جديد؟.

من المؤسف القول بأن الوسائل القانونية المتاحة تبقى محدودة جدا إذ أن القانون الدولي، على خلاف القوانين الداخلية للدول، تشوبه نقائص ونقاط ضعف تحول دون تطوير نظام قانوني للمجتمع الدولي. فرغم الأعراف والمعاهدات الدولية التي ذكرناها، لا يوجد هيئة قضائية دوليّة مخولة مراقبة حسن تطبيق وإحترام القانون الدولي. بالطبع هناك محكمة العدل الدوليّة إلا أنه لا يمكن لها أن تنظر بأي دعوى مقدمة من طرف الا بعد الحصول على موافقة الطرف الآخر. فنظام هذه المحكمة ينص على ان ولايتها اختيارية أي انها تشترط رضى جميع الأطراف المتنازعة بعرض الخلاف عليها للنظر والفصل فيه. فليس بإستطاعة لبنان أن يقوم، على غرار ما فعلته جمهورية الكونغو الديمقراطية ردا على قرار توقيف وزير خارجيتها الصادر عن القضاء البلجيكي، بالطلب من المحكمة النظر في قضية الحريري إلا إذا وافقت السعوديّة على هذا الأمر.

يبقى للبنان أن يحمل هذه القضية الى مجلس الأمن في الأمم المتحدة، الذي يمكن ان يتخذ عدة اجراءات بهدف حمل المملكة العربية السعودية على إحترام السيادة اللبنانية والسماح بعودة الحريري إلى لبنان :

*إذ يمكن لمجلس الأمن أن يصدر قرارا دوليا يعتبر فيه أن إستمرار إعتقال الحريري، من شأنه أن يؤدي إلى حرب اهليّة في لبنان والمنطقة، ويعرض في الوقت نفسه السلم والأمن الدوليين للخطر، خصوصا في ظل الفوضى السائدة في ​الشرق الاوسط​. هذا الخيار يبقى مستبعدا نظرا إلى موازين القوى في ​مجلس الأمن الدولي​ والى حق الفيتو الذي يمكن من خلاله لأي عضو دائم من الأعضاء الخمسة (​الولايات المتحدة الأميركية​، ​فرنسا​، ​الصين​، ​المملكة المتحدة​ و​روسيا​) أن يجمد أي قرار يمكن أن يمس بمصالحه أو بمصالح حلفائه.

*يمكن ايضأ لمجلس الأمن ان يصدر بيانا سياسيا موجها للسعودية يشدد فيه على ضرورة إحترام سيادة لبنان ودستوره. يبقى هذا البيان غير ملزم للمملكة ولكنه لا بد أن يشكل ضغطا سياسيا عليها .

في المحصلة، يتبين لنا بأن الوسائل القانونية المتاحة في القانون الدولي تبقى غير كافية لإيجاد حل لمسألة الحريري. لا يسع السلطات اللبنانية إذن سوى العمل على تدويل هذه القضية قدر الإمكان وحمل الدول الكبرى والصديقة على مساندتها، وممارسة ضغوط دبلوماسيّة لإقناع السعودية على إحترام سيادة لبنان والقوانين والأعراف الدولية.