أثارت التطورات السياسية الأخيرة في لبنان على خلفية استقالة رئيس الحكومة الحريري من ​الرياض​ القلق والخوف لدى اللبنانيين من العودة بالبلاد إلى مرحلة الفوضى والاضطراب وتفجير الاستقرار والإطاحة بالسلم الأهلي وبالتالي الآمال الكبيرة التي عقدت على عهد رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ والذي أدى خلال السنة الأولى من تسلمه سدة الرئاسة إلى إخراج البلاد من حالة الشلل في عمل مؤسسات الدولة وسن العديد من القوانين وإقرار ​سلسلة الرتب والرواتب​ وقانون جديد للانتخابات يعتمد النسبية وتحديد موعد إجراء الانتخابات في شهر أيار/مايو المقبل من عام 2017 وإقرار التعيينات في العديد من مراكز الدولة .وبالتالي وضع نهاية للتمديد لمجلس النواب من دون أي مسوغات قانونية أو مبررات أمنية مقنعة .

لقد طرحت هذه التطورات الأسئلة عما إذا كانت الظروف الحالية التي يشهدها لبنان تجعله قابلا للعودة إلى مرحلة الفوضى والاضطراب كما حصل في أعقاب جريمة اغتيال الرئيس ​رفيق الحريري​، ام ان الظروف اليوم باتت مختلفة ولا تسمح بإعادة لبنان إلى مثل هذه الحالة من الاضطراب والفوضى، وما هي الاحتمالات المتوقعة من جراء الأزمة التي تسببت بها استقالة الرئيس ​سعد الحريري​؟.

اولا: من راقب المشهد السياسي والشعبي في لبنان في أعقاب استقالة الرئيس الحريري من الرياض يلحظ بوضوح أن الاستتقالة أدت إلى نتائج معاكسة لما توقعه البعض منها، فقد أدت إلى تحقيق شبه إجماع وطني في البلاد يدعو إلى الحفاظ على الهدوء وعدم الانجرار إلى ردود أفعال سلبية في الشارع.وظهر ذلك من خلال الالتفاف حول موقف رئيس الجمهورية بعدم قبول الاستقالة وانتظار عودة الرئيس الحريري للاستماع إليه ومعرفة ظروف الاستقالة وموقفه النهائي بشأن ما إذا كان مصرا على الاستقالة ام يريد التراجع عنها، وعلى هذا الأساس يتخذ رئيس الجمهورية الموقف المناسب والذي ينسجم مع الأصول الدستورية والقانونية.

اما على المستوى الشعبي فان اللبنانيين لم يستجيبوا لدعوات البعض في لبنان للنزول إلى الشارع، حيث لم يلب الدعوة التي أطلقها الوزير السابق ​اشرف ريفي​ سوى العشرات من الشباب الذين ظهروا عبر وسائل الإعلام غير مدركين لماذا أتوا إلى ساحة الشهداء في بيروت. مما أصاب الجهات الداعية للتظاهر بالخيبة والخذلان.

ثانيا: إن الظروف الحالية لا تساعد على العودة بلبنان إلى حالة الفوضى والاضطراب حتى ولو حاولت قوى الفتنة إثارة الفوضى عبر التحريض الطائفي والمذهبي أو تنفيذ عمليات أمنية وذلك للأسباب التالية:

السبب الاول: تماسك مؤسسات الدولة اللبنانية في ظل وجود رئيس للجمهورية يملك إرادة قوية على رفض أي تدخلات خارجية بشؤون لبنان الداخلية والحرص على حماية الأمن والاستقرار وهو يملك قاعدة شعبية كبيرة وكتلة نيابية وازنة ومشاركة فاعلة في الحكومة.

السبب الثاني: دور الجيش الوطني اللبناني برفض السماح بأي مس بالأمن والاستقرار لا سيما بعد تسلم ​العماد جوزيف عون​ ​قيادة الجيش​ وهو معروف بأنه قريب من الرئيس ميشال عون ما يجعل من غير الممكن التلاعب بقرار الجيش كما حصل عام 2005 على إثر ارتكاب جريمة اغتيال الرئيس الحريري، حيث لم يتدخل الجيش في حينه لمنع مظاهر الشغب والفوضى.

السبب الثالث: دور الأجهزة الأمنية في التعاون والتنسيق في السهر على الأمن من خلال ملاحقة وتعقب واعتقال شبكات الإرهاب و​الموساد​ ونجاحها في اصطياد العديد منها تضم قيادات وكوادر إرهابية ومنع العديد من التفجيرات. ومثل هذا الدور للأجهزة الأمنية يسهم في قطع الطريق على المخططات الهادفة إلى تنفيذ عمليات اغتيال أو تفجير غايتها إثارة الفتنة وضرب الأمن والاستقرار. وقد عزز من قدرة الأجهزة الأمنية على منع مثل هذه العمليات الإرهابية نجاح لبنان في تحرير الجرود اللبنانية من وجود ​الجماعات الإرهابية​ المسلحة التي كانت تهدد أمن وحياة اللبنانيين بالخطر الدائم.

السبب الرابع: موقف ​الشعب اللبناني​ الرافض للعودة إلى مرحلة الفوضى خصوصا وأنه اختبر نتائج ما حصل من عدم استقرار وانقسام عام 2005 وانكشاف البلاد امنيا، وهو ما أدى إلى تهديد حياته وإلحاق الضرر الفادح بمصالحه.

ثالثا: انطلاقا مما تقدم فإن الأزمة التي يشهدها لبنان هذه الأيام ستبقى في الإطار السياسي أغلب الظن، وهي أزمة قد تكون مرشحة للاستمرار الى حين موعد الانتخابات النيابية في أيار المقبل من عام 2018، أو تنتهي مع عودة الرئيس الحريري إلى بيروت.

على أن الاحتمالات المتوقعة تقع في نطاق ثلاث:

الاحتمال الاول: ان يتراجع الرئيس الحريري عن الاستقالة وبالتالي تنتهي الأزمة وتستمر التسوية التي تمت بانتخاب الرئيس عون وتشكيل الحكومة برئاسة الرئيس الحريري. وهذا ما حصل عندما اجتمع مع رئيس الجمهورية ميشال عون قبيل بدء تقبل التهاني ب​عيد الاستقلال​، حيث طلب الرئيس عون من الحريري التريث بالاستقالة الذي استجاب بدوه لطلب الرئيس وتمنى عليه ترؤس طاولة للحوار الوطني لبحث طلبه النأي بلبنان عن الصراعات الإقليمية في المنطقة. ويكون بذلك هو المخرج من الأزمة التي تسببت بها استقالة الرئيس الحريري في الرياض.

الاحتمال الثاني: ان يفشل الحوار في التوصل إلى صيغة موحدة حول سياسة النأي بلبنان عن الصراعات الإقليمية نتيجة استحالة تحقيق ذلك موضوعا، وبالتالي يقوم الحريري بتقديم استقالته وتتحول حكومته إلى حكومة تصريف أعمال ريثما يتم إجراء استشارات نيابية وتكليف رئيس جديد لتشكيل حكومة جديدة مهمتها الإشراف على إجراء الانتخابات على غرار حكومة الرئيس ​نجيب ميقاتي​ التي شكلت عام 2011.

الاحتمال الثالث: وهو مرتبط بعودة الحريري إلى الرياض بعد تقديم استقالته، بأن تجري استشارات ويتم تسمية رئيس لتشكيل الحكومة من دون أن يشكل الحكومة وتبقى الحكومة الحالية تقوم ب​تصريف الأعمال​ إلى حين موعد الانتخابات النيابية حيث تشرف على إجرائها.

الاحتمال الرابع: أن يتم تكليف رئيس للحكومة يقوم بتشكيل الوزارة لكنها لا تحظى بثقة ​المجلس النيابي​ وتبقى تصرف الأعمال إلى حين دنو موعد الانتخابات التي يؤدي إجراؤها إلى الحسم السياسي للأزمة من خلال المجلس النيابي الجديد وتشكيل حكومة انطلاقا من واقع التوازنات الجديدة في المجلس والمتوقع أن تؤدي إلى تغيير في المشهد السياسي.

على أن الاحتمال الأول يبقى هو المرجح . لعودة الحريري عن استقالته والاستجابة لمطلبه بإجراء حوار وطني كمخرج لأزمة استقالته في ​السعودية​ وتبرير العودة عنها في بيروت. وبالتالي تستمر الحكومة الحالية وتقوم بواجبها الدستوري وتستمر إلى حين إجراء الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة.

لكن الأمر الأكيد أن ما حصل حصن استقلال لبنان في عيد الاستقلال عندما نجح لبنان بالتوحد في هذه الأزمة مما حال دون انفجار التسوية الداخلية ومنع محاولات إعادته إلى مرحلة عدم الاستقرار.