وسط الأزمات المتشعّبة التي تشهدها البلاد، يكاد الثابت الوحيد الذي يجمع عليه جميع الفرقاء يكون أنّ الانتخابات النيابية حاصلة في مواعيدها، أو ربما قبل ذلك، مع اتساع رقعة المطالبين بها، وانضمام رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ إليهم، بعد الرصيد الشعبي الهائل الذي "أهدته" إيّاه الأزمة الأخيرة، والذي لم يكن ليحقّقه بمفرده خلال المدّة الفاصلة عن الانتخابات، بعدما كان حتى الأمس القريب المُتَّهَم بالسعي لتطيير الاستحقاق الانتخابي نظراً لعدم جهوزيّته لوجستيًا وشعبيًا له.

ولكن، وفي ظلّ "تريّث" الحريري في تقديم استقالته، وتصاعد الحديث عن "تسوية" جديدة سيتمّ تكريسها على أنقاض "التسوية" الرئاسية، التي يُقال أنّها "ماتت سريريًا" بعدما استنفدت نفسها، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه، هل يدخل ​قانون الانتخاب​ في بازار "التسوية" الجديدة، ليس فقط لكون آلياته التطبيقية لم تُحسَم بعد، ولكن قبل ذلك لأنّ الكثير من الأصوات المحسوبة على ​السعودية​ دعت مؤخّرًا لاعادة النظر بالقانون، الذي اعتبرت أنّه يؤمّن غالبية مطلقة لـ"​حزب الله​" وحلفائه؟ وأبعد من ذلك، هل يمكن العودة إلى قانون الستّين أو غيره من الصيغ الأكثريّة لاجراء الانتخابات على أساسه؟!.

الرغبة موجودة...

منذ إقرار قانون الانتخاب الجديد، تحت "ضغط" اللحظة الأخيرة، يُحكى الكثير عن عدم رضى معظم الفرقاء عليه، رغم أنّه أتى برأي الخبراء الانتخابيّين مفصّلاً على قياس الطبقة السياسيّة الحاليّة، بل إنّ النسبيّة التي اعتمدها أتت "مشوَّهة"، ومغلّفة بطابعٍ أكثريّ مُبطَن، فضلاً عن كون الاصلاحات الانتخابية التي نصّ عليها، على قلّتها، أفرغت من مضمونها شيئاً فشيئاً. وقد عبّر الكثير من هؤلاء الفرقاء عن "امتعاضهم" من هذا القانون، وذهب بعض من شرّعوه لحدّ "الندم" على ما اقترفت أيديهم، والقول إنّهم عاجزون عن استيعاب تعقيداته من الصوت التفضيليّ إلى الحاصل الانتخابيّ، وكيفية نسج التحالفات بموجبه.

إلا أنّ كلّ الدعوات إلى تعديل هذا القانون بقيت في خانة "المحظورات"، باعتبار أنّ الوصول إليه تطلّب أشهرًا طويلة بل سنواتٍ من العناء، وبالتالي فقد اعتُبِر هذا القانون بمثابة "أفضل الممكن"، أو بتعبيرٍ آخر، الحدّ الأدنى الممكن، بعدما اصطدمت كلّ الصيغ الأخرى، الأكثرية والنسبيّة والمختلطة، بفيتو هذا الفريق أو ذاك. لكنّ الأزمة الأخيرة التي شهدتها البلاد، مع استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري المريبة من المملكة العربية السعودية وما تلاها من تداعياتٍ لم تنتهِ فصولاً حتى اليوم، كسرت الكثير من هذه "المحظورات"، حيث خرجت العديد من الأصوات المحسوبة على السعودية لتدعو لإعادة النظر بالقانون، على اعتبار أنّه أتى لصالح "حزب الله" وحلفائه، وبالتالي من شأن تطبيقه منح الحزب أغلبية مطلقة في البرلمان المقبل، وهو ما لا يمكن القبول به بأيّ شكلٍ من الأشكال.

وإذا كان المسؤولون السعوديّون سرّبوا مثل هذه الأجواء خلال مرحلة الأزمة، وهو ما أمكن رصده من خلال الصحافة السعوديّة بشكلٍ واضحٍ، قبل أن يتبنّى هذا الخطاب الوزير السابق اللواء ​أشرف ريفي​ الذي خرج بتصريحاتٍ مباشرة شدّد فيها على وجوب إعادة النظر بالقانون الذي قال أنّه "أقرّ على قياس حزب الله"، فإنّ المفارقة تكمن في أنّ رئيس الحكومة سعد الحريري، بمُعزَلٍ عن موقعه اليوم، وما إذا كان قد نسّق تريّثه في الاستقالة مع القيادة السعودية أو لم يفعل، يلاقي بشكلٍ أو بآخر هذه الرغبة. ومردّ ذلك، كما يقول العارفون، أنّ الرجل يدرك أنّ "الانتصار" الذي يمكن أن يحقّقه اليوم بموجب القانون الأكثريّ أكبر بكثير من ذلك الذي يمكن أن يعطيه إياه القانون النسبيّ، الذي يجزم الخبراء أنّه لن يؤمّن له مقاعد إضافيّة حتى في "ذروة الشعبية" التي يعيشها اليوم. بمعنى آخر، فعلى الرغم من أنّ الأزمة الأخيرة "أنعشت" الرجل شعبيًا، فإنّه لن يكون من السهل عليه بموجب قانون الانتخاب تحقيق نتيجة توازي بالحدّ الأدنى تلك التي حققها في انتخابات العام 2009، والتي جعلته رئيس الكتلة النيابية الأكبر حجمًا على الإطلاق في داخل البرلمان.

عوائق بالجملة...

انطلاقاً من ذلك، قد يكون منطقيًا، بنظر كثيرين، أن يوضَع قانون الانتخاب من ضمن "بنود المقايضة" في التسوية الجديدة، خصوصًا أنّ العديد من الفرقاء لا يزالون يفضّلون القانون الأكثري القديم على النسبيّ الجديد، إلا أنّ عوائق كثيرة تحول، بالمنطق أيضًا، دون إمكانية تغيير قانون الانتخاب في الفترة الفاصلة عن الانتخابات، بل إنّ البعض يعتبر أنّ "تطيير" الانتخابات والذهاب لتمديد رابعٍ يبقى خيارًا أكثر ترجيحًا من تعديل قانون الانتخاب.

ولعلّ العائق الأول، والذي لا جدال حوله، يتمثّل في تمسّك "حزب الله" بقانون الانتخاب الجديد، علمًا أنّ الحزب أبلغ كلّ من يعنيهم الأمر منذ إقرار القانون أنّه سيقف بالمرصاد لأيّ محاولة لتعديل أيّ حرفٍ فيه، وهو ما جعل حليفه "​التيار الوطني الحر​" يتراجع عن طرحه بعض التعديلات لما بعد التجربة الأولى له. وهناك من يقول إنّ تمسّك الحزب به سيزداد اليوم تصلّباً بطبيعة الحال، خصوصًا بعدما عبّرت السعودية صراحةً عن امتعاضها منه، إذ إنّه لن يقبل بتقديم "هدايا مجانية" لها، خصوصًا بعد الأزمة الأخيرة، والتي يعتبر الحزب أنّ السعودية كانت تسعى من خلالها لتنفيذ انقلابٍ في الداخل اللبنانيّ، ولكنّها أخفقت في تحقيق مرادها.

وإلى جانب هذا الموقف الثابت لـ"حزب الله" في مواجهة أيّ محاولة لتعديل القانون، فإنّ لا شكّ أنّ رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​، ومن خلفه "التيار الوطني الحر"، سيقف أيضًا عائقًا دون أيّ محاولة للعودة الى الستّين الذي حاربه بما فيه الكفاية، وهو سيعتبر العودة عن قانون وصفه بأنّه الحدّ الأدنى الممكن، بمثابة ضربةٍ له وللعهد، وهو لن يسمح بها، تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، علمًا أنّ عدم حسم الآليات التطبيقية للقانون، من ​البطاقة البيومترية​ إلى الاقتراع مكان السكن والتسجيل المسبق وغيرها من الأمور، على أهميتها بالنسبة إليه، لن يشكّل ذريعة للعودة الى السابق، لأنّ الانتخابات يمكن أن تحصل بموجب الجديد من دونها، وفق الطريقة التقليدية القائمة على بطاقة الهوية و​جواز السفر​.

أما ما يُحكى عن إمكان البحث عن آخر جديد يرضي الممتعضين في الفترة الفاصلة عن الانتخابات يلغي تلقائيًا، من وجهة النظر القانونية، قانون النسبيّة مع الصوت التفضيليّ، فلا يبدو مُتاحًا، بل سيكون مستعصيًا بالنظر لضيق الوقت الفاصل عن الانتخابات، والذي لا يسمح بإعادة الأمور إلى نقطة الصفر، خصوصًا أنّ التجربة أثبتت أنّ التوافق على ​قانون انتخاب​ يكاد يكون مهمّة مستحيلة ضمن المهل الواسعة، فكيف بالحريّ ضمن تلك الضيّقة كما هي اليوم.

الانتخابات الحلّ؟

في المبدأ، يسود اعتقادٌ بأنّ الانتخابات تكون عادةً هي المَخرَج لأيّ أزمةٍ تمرّ بها أيّ دولةٍ، باعتبارها تشكّل مناسبة لاستفتاء الشعب ومعرفة خياراته، وتعطيه الفرصة ليفرز ميزان قوى يمكن البناء عليه في حلّ الأزمة.

ولكن، في لبنان، حيث كلّ شيء معكوس، وفي ظلّ المعمعة الحاصلة على قانون الانتخاب، تبقى الخشية من أن تكون الانتخابات مناسبة لتمديد الأزمة لا أكثر، بل إنّ الخشية الأكبر تبقى على الانتخابات نفسها، المهدّدة بالإلغاء في أيّ لحظة...