الاقتصاد هو أساس قوة أي دولة في العالم، إن كان سياسياً أو عسكرياً، ومن دون شك فإن صعود الإمبراطوريات التي سادت عبر التاريخ، وتعاظمت وسيطرت، كانت قوتها الاقتصادية هي الأساس الذي مكنها من أن تبني جيشاً قوياً يملك القدرات الحربية المتطورة، استخدمته في شن الحروب وفرض سلطانها على الدول والشعوب التي كانت ترفض الخضوع لسياساتها وعملت على إخضاعها، وبالتالي فرض هيمنتها السياسية،

وأيضا فإن ضعف وأفول هذه الإمبراطوريات كان سببه تراجع القوة الاقتصادية ما انعكس سلباً على قوتها العسكرية ونفوذها السياسي في العالم، وذلك لعدم قدرتها على تأمين الأموال اللازمة للحفاظ على قوتها العسكرية وتوفير نفقات انتشارها في البحار وفي الكثير من الدول واستطرادا للعجز عن شن الحروب بسبب كلفتها المادية التي لم تعد قادرة على تحملها. هذا ما حصل مع الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن الشمس تغيب عن مستعمراتها والتي ضمرت وانحسرت عندما تراجعت قدرتها المالية. وهو الأمر نفسه الذي تعرضت له الإمبراطورية الفرنسية، والإمبراطورية العثمانية، وقبلها الإمبراطورية الرومانية..الخ.

اليوم يبدو أننا أمام المزيد من الوقائع والمعطيات التي تؤكد أن الإمبراطورية الأميركية تسير في نفس المسار من التراجع في قوتها الاقتصادية وبالتالي العسكرية وعدم القدرة على توفير الأموال اللازمة للإنفاق على قواتها كما كانت تفعل في السابق، عدا طبعا عن عدم القدرة على تأمين الأموال لشن الحروب المكلفة. وهو ما يفسر حالة الارتباك في السياسة الأميركية الخارجية وتذبذبها في العديد من المناطق الساخنة في العالم. من شبه الجزيرة الكورية وبحر ​الصين​ الجنوبي، مرورا بدول ​أميركا اللاتينية​ مثل كوبا و​فنزويلا​ و​بوليفيا​ وغيرها، وصولا إلى ​أوكرانيا​ وانتهاء ب​سوريا​ و​العراق​.

أهم وأقوى هذه الوقائع والمعطيات ما ذكرته مجلة فورين بوليسي الأميركية المعروفة بدقة معلوماتها ومصادرها، حيث قالت إن ميزانية الدفاع الأميركية أصبحت اليوم هي القضية الأهم والتي تحتل صدارة الاهتمام في ​واشنطن​ بسبب العديد من المؤشرات المقلقة الناتجة عن أن الميزانية الدفاعية باتت منخفضة لدرجة لا تستطيع الإيفاء بالتزامات الولايات المتحدة عالميا.

وهذا الضعف في الميزانية أدى إلى:

أولا: انعكاس سلبي على الجاهزية لدى ​الجيش الأميركي​ وجعل وزير الدفاع ​جيمس ماتيس​ يقول إنه صدم بجاهزية الجيش القتالية حين عاد إلى المؤسسة العسكرية بعد أربع سنوات من التقاعد، وقد أعادت فورين بوليسي السبب في ذلك إلى ما ذكره المحلل العسكري الأميركي دان غور من أنه ليس لدى الجيش الأميركي سوى ثلاث فرق قتالية من بين أكثر من 50 فرقة مجهزة ومدربة لخوض صراع كبير، وأن نصف المقاتلين فقط من قوات المارينز والبحرية متوفرون للقتال نتيجة عدم كفاية الأموال اللازمة للصيانة.

ثانياً: تصنيف الجيش الأميركي، وفق مؤسسة هاريتج، هامشي ويتجه نحو الضعف، حيث صنف المحللين التابعين لمؤسسة الجيش الأميركي والمارينز على أنهما ضعيفان وسلاحي البحرية والجو على أنهما هامشيان.

ثالثاً: هذه الحقائق حسب «فورين بوليسي» تثير القلق أكثر حين نرى كيف يبني خصوم الولايات المتحدة بما فيها ​روسيا​ والصين و​إيران​ و​كوريا الشمالية​ ترساناتها على نحو سريع».

وأضافت «إن هذه التطورات خطيرة لدرجة تهدد بكسر مفهوم باكس أميركانا الذي تكرس ما بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 ويترك الولايات المتحدة وحلفاءها عرضة للعدوان مشيرة إلى أن هذه هي المشكلة».

إن هذه المؤشرات الناتجة من انخفاض الميزانية العسكرية الأميركية والتي تثير قلقا بوليسيا، والذي هو ترجمة لقلق مؤسسة ​البنتاغون​، ليست نابعة من سياسة إرادية مرتبطة بإعادة النظر بالسياسة الأميركية، إنما هي سياسة اضطرارية أجبرت عليها إدارة الرئيس السابق ​باراك أوباما​ وتستمر بها إدارة ترامب الحالية، وذلك بسبب تراجع القدرات المالية للولايات المتحدة ووقوعها تحت عبء دين بلغ الـ20 تريليون دولار، وعجز في الموازنة يفوق الـ650 مليار دولار، وبالتالي فإن أميركا باتت مجبرة، أمام أعباء سداد فوائد سندات الدين المرهقة والاستمرار بالاستدانة لتأمين العجز في الموازنة، على اتخاذ إجراءات تقشف في الإنفاق وتقليص الموازنات العسكرية والامتناع عن شن الحروب البرية المكلفة مادياً.

ويبدو من الواضح أن هذا الدين والعجز وتقليص الإنفاق العسكري إنما هو عائد إلى الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الولايات المتحدة والتي عصفت بالاقتصاد الأميركي وتفجرت سنة 2008. على أن هذه الأزمة ناتجة عن عوامل عديدة أهمها تراجع معدلات النمو في اقتصاد أميركا بفعل اشتداد المنافسة الاقتصادية العالمية على الأسواق والتي أنهت هيمنة أميركا والغرب عموما على الاقتصاد العالمي وأدت إلى انتقال مركز الثقل في الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق.