عادت ​فرنسا​ لتلعب دوراً محورياً على مستوى العالم، من خلال بروزها في العديد من الأزمات العالمية، لا سيما في ​الشرق الأوسط​ والساحل الأفريقي، لكن هذا الأمر لا يلغي دورها المحوري المتجدد على مستوى القارة الأوروبية، في ظل غياب ​بريطانيا​ التي قررت الخروج من الإتحاد، وإنشغال ​ألمانيا​ بأزمتها الداخلية الناجمة عن الفشل في تشكيل حكومة جديدة.

على هذا الصعيد، كان الحضور الفرنسي البارز في الأزمة اللبنانية مؤخّرًا، بعد إعلان رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ عن إستقالته من العاصمة ​السعودية​ الرياض، ومن ثم في القمة المشتركة بين الإتحادين الأوروبي والأفريقي في أبيدجان، حيث لم يتأخر الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​، خلال جولته الأفريقية، في الإعلان أنه سيقترح مبادرة أوروبية أفريقية لضرب المنظمات الإجرامية وشبكات التهريب التي تستغل المهاجرين الأفارقة، من دون تجاهل المواقف التي يعبّر عنها في مختلف الأزمات الأخرى.

في هذا السياق، يرى رئيس رابطة خريجي الجامعات الفرنسية الدكتور ​وليد عربيد​، في حديث لـ"النشرة"، أن الدبلوماسية الفرنسية تعود، في ظل الرئيس الجديد، لتأخذ دورها، وتسعى للعب دور في حل النزاعات على مستوى العالم، ويلفت إلى أن ماكرون ينتهج ما يسمى بدبلوماسية الوساطة، وباريس تريد أن تؤكد بأنها دولة كبرى لها رأيها في مجموعة من الصراعات حول العالم لا سيما في الشرق الأوسط.

بدوره، يوضح الباحث في العلاقات الدولية والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف البروفسور باسكال مونان، في حديث لـ"النشرة"، أن ماكرون أطلق في شهر آب الماضي تصوره للسياسة الخارجية عندما التقى سفراء الدولة الفرنسية، ومن ثم خلال خطابه في ​الجمعية العامة للأمم المتحدة​، حيث ظهرت النقاط التي سيركز عليها، وهي الأمن ومحاربة ​الإرهاب​ وتمتين ​الإتحاد الأوروبي​.

ويشير مونان إلى أنه بعد ذلك حاول من خلال السياسة الخارجية أن يتدخل في عدة ملفات دولية، معتبراً أن ماكرون يسعى لإعادة فرنسا إلى الميدان الدولي، ويرى أن أسلوبه يذكر بنمط سياسة الرئيسين السابقين ​شارل ديغول​ وفرنسوا ميتيران، بينما السياسة الفرنسية بعد الرئيس ​جاك شيراك​ لم تكن في إطارها السيادي.

من جانبه، يشير المتخصص في الشؤون الفرنسية ​تمام نور الدين​، في حديث لـ"النشرة"، إلى أن ماكرون يسعى إلى ترك بصمته على مستوى العلاقات الخارجية، ويلفت إلى أن فرنسا على المستوى الأوروبي تستفيد من غياب ألمانيا، بسبب المشاكل التي تعاني منها الأخيرة على الصعيد الداخلي.

وفي حين يلفت نور الدين إلى أن فرنسا دولة عظمى، لها تاريخ طويل قد لا يعجب البعض، تمثل مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان، يشير إلى أن التساؤلات تبقى حول الموقف الأميركي من هذه العودة، حيث يوضح أنه في الأزمة اللبنانية تركت واشنطن لباريس المجال كي تعمل على تهدئة الأمور.

وفي حين تبرز الأزمة السوريّة بوصفها الملف الأكثر تعقيداً في الشرق الأوسط، يرى عربيد أن السؤال الأساسي في هذا المجال يكمن حول ما اذا كانت باريس فشلت في التعاطي معها في العام 2011، لافتاً إلى أن السياسة الخارجية في أي دولة تتغير تبعاً للعبة المصالح، ويعتبر أن باريس قادرة اليوم على لعب دور في إعادة إعمار ​سوريا​.

ويعتبر عربيد أن فرنسا بحاجة إلى الإقتصاد وماكرون يأتي من خلفية مالية وإقتصادية، وبالتالي هو يسعى لأن يكون لاعباً أساسياً على الساحة الدولية ليكون لباريس حصتها في المصالح الدولية الجديدة، ويشدد على الترابط بين الدورين الإقتصادي والسياسي.

من جانبه، يذكر نور الدين بأن الرئيس الفرنسي سبق له أن أعلن الإنتصار على "داعش"، موضحاً أنه يتميز بالواقعية التي ستدفعه في نهاية المطاف إلى إعادة العلاقات مع ​الحكومة السورية​ الشرعية، بالرغم من أن ذلك لا يزال يحتاج إلى المزيد من الوقت، ويشير إلى أن ماكرون غير متورط، كما سلفه ​فرنسوا هولاند​، بتحالف مع الأتراك والسعوديين والقطريين، وهو لم يتحدث في أي خطاب عن ضرورة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد كشرط.

بدوره، يلفت مونان إلى أن ما يميز ماكرون هو السرعة في ردة الفعل والواقعية وإستخدام العلاقات الشخصية، مشيراً إلى أنه عاد إلى الساحة الدولية من البوابة الليبية بمبادرة قام بها ولم تنجح، ومن خلال البوابة اللبنانية والملف السعودي الإيراني، معتبراً أن بيروت كانت بوابة العبور بعد إنكفاء في السنوات الأخيرة، حيث تركت الساحة للولايات المتحدة و​روسيا​ وغيرها من القوى الإقليمية.

ويرى مونان أن فرنسا تسعى إلى لعب دور الوسيط في الأزمات، على عكس السياسة التي ينتهجها الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​، حيث الدعوة لحل الأزمات من خلال التواصل والعمل الجماعي، خصوصاً أن ماكرون يعي أن بلاده لم تعد تمتلك القوة التي تسمح لها بأن تكون صاحبة كلمة الفصل دائماً، ويعتبر أنه بظل الأزمات الموجودة اليوم هناك الهامش الكبير لفرنسا، وعلى ما يبدو ان الرئيس يستفيد منه إلى أبعد حدود.

ويعطي مونان مثالاً على ذلك موقفه من الملف ​النووي الإيراني​، حيث كان قراره واضح بالدفاع عن الإتفاق بخلاف سياسة ترامب، بالإضافة إلى دوره في الأزمة اللبنانية الأخيرة، والنجاح في إيجاد المخرج المناسب لها.

في المحصلة، عادت فرنسا بقيادة إيمانويل ماكرون بقوّة إلى الساحة الدولية، وهذا الأمر ظهر بشكل واضح خلال الأزمة اللبنانية الأخيرة، ولكن هل ينجح في الإستمرار على هذا المنوال؟.