إن إعلان الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ بأنّه حان الأوان للإعتراف ب​القدس​ عاصمة ل​اسرائيل​؛ تماماً كإعلانه البارحة خلال حفل أقيم في ​البيت الأبيض​، بأنه سيقيم قاعدة على القمر لإرسال رحلات مأهولة إلى المريخ أو ربما أبعد. الرجل صريح وطموح. كوكب الأرض لم يعد ملعبه. لقد "وهب" القدس لاسرائيل كأنها مُلكٌ أميركي يقدمها هدية عيدٍ بخربشة قلم".

يدرك الرئيس الأميركي أن سياسة الإدارات الأميركية الخارجية على الأرض لم تحقق كلّ آمال واضعيها. هذا ما سبق واعترفت به وزيرة الخارجية السابقة ​كونداليزا رايس​ والوزيرة السابقة ​هيلاري كلينتون​ في كتاب مذكراتها "خيارات صعبة". فهو يحاول اليوم عبر وعوده تحويل الفشل الماضي الى عناوين انتصارات حاضرة يمهر بها عهده؛ ولئن كانت وعوده منذ حملة ترشحه غير قابلة للتنفيذ.

يلعب ترامب على المشاعر العرقية في خطاباته الصادمة. من يتابعه جيدا يراه يتنقل من حلم شعبوي الى آخر بسرعة البرق. أعلن عزمه بناء جدار فاصل مع ​المكسيك​ مصعدا اللهجة بوجه المهاجرين غير الشرعيين. ولم يضع حجر أساس. قرر منع دخول مسلمي بعض الدول؛ فمرّت أيام وتم الطعن بقراره أمام القضاء. فتوقف تنفيذه. زار ​السعودية​ وعقد معها الصفقات.

صعّد اللهجة بوجه ​كوريا الشمالية​ وهددها؛ فصعّد بوجهه الزعيم الكوري التهديد. همَد ترامب. وتكرّ سبحة الأوهام بالشؤون الخارجية والداخلية.

إرضاء اللوبي الصهيوني بالتوقيع على قانون نقل السفارة الأميركية الى القدس مسألة لها أولوياتها لدى الرئيس الأميركي لأسباب عدّة، منها ما يتعلق بالشق الإقتصادي الأميركي و آخر بالشق السياسي.

ظهر ذلك اقتصاديا في تأثير القرار على أسعار البورصة؛ وعلى ارتفاع أسعار الذهب بعد أن وصل الى أدنى مستوياته في الشهرين المنصرمين .

لجهة الأهداف السياسية؛ نذكر المسائل التالية:

أوّلاً: ترسيخ الحلف الاستراتيجي الأميركي-الاسرائيلي ردًّا على القمة الثلاثية التي عقدها الرئيس الروسي ​فلاديمير بوتين​ فيما بين روسيا، ​تركيا​ و​ايران​ والتي سبقها لقاؤه الثنائي مع الرئيس السوري ​بشار الأسد​ والتي تناولت قضايا شرق أوسطية تخطت قضية ​سوريا​.

تشير المعطيات الروسية أن اسرائيل اعترضت على هذه القمة واعتبرت أن شكل وتوقيت محادثاتها تشكل خطرا على مصالحها.

ثانيا": في ظل الإخفاقات التي لحقت بالكيان الاسرائيلي مع خسارته الحرب بوجه محور المقاومة. أتى الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لاسرائيل ليحقق الحلم الصهيوني الذي أرادت اسرائيل الوصول اليه عبر منطق القوة والبطش والعدوان. تجرّأ ترامب ووقّع قانون نقل السفارة الأميركية الى القدس. و لكنه يعلم أنه غير قابل للتطبيق.

ثالثا: يقفل الرئيس الأميركي بقراره هذا بوابة الدور الأميركي الريادي في مسائل منطقة الشرق الأوسط. هو يحسم الموقف الأميركي تجاه القضية المركزية في الشرق الأوسط. يصطف الى جانب اسرائيل . يضع الكرة بملعب المجتمع الدولي و ينسحب تدريجياً. هذا أول تحول في موازين القوى. الاتفاق الأميركي-الروسي بشأن حل أزمة سوريا و ​العراق​ وزّع الأدوار.

كنا قد ذكرنا في مقالة سابقة منذ حوالي العام منشورة في كتاب "حدود الدم و خيوط الحبر" ان الرئيس الأميركي السابق ​باراك اوباما​ يختم عهده باتفاق سياسي على أن تستلم روسيا الدور الأساس في سياسة الوساطة في الشرق الأوسط؛ أقلّه أثناء مرحلة تفترض وقتا لإعادة التموضع وفق أسس جديدة، بعد الإخفاقات الاستراتيجية الأميركية في السياسة الخارجية الشرق الأوسطية. تحوّل سياسي فرضه الميدان اللبناني والسوري والعراقي .

رابعاً: إنّ قرار ترامب بالتوقيع على القانون الصادر عن الكونغرس الأميركي والذي يحمل الرقم ٤٥-١٠٤الصادر بتاريخ ٨ تشرين الثاني ١٩٩٥ لم يحمل جديدا.

هو وقّع على قانون موجود منذ أكثر من ٢٢ سنة رفض أسلافه التوقيع عليه على اعتبار أن الخلاف على القدس يحتاج قرارا دوليا لحسمه.

إضافة إلى ذلك، القانون بحدّ ذاته مخالف للدستور للأميركي. إنّ الكونغرس كان قد تعدّى على صلاحيات رئيس الجمهورية خارقاً الدستور الذي يمنح الرئيس وحده سلطة اتخاذ القرارات بشأن سيادة الدولة خارج الأراضي الأميركية. قضية نقل وفتح سفارة هي مسألة سيادة خارجية. ترامب لم يصدر قرارا أحاديا رئاسيا بل وقّع قانون الكونغرس. هذا القانون اليوم وبعد توقيعه هو قابل للطعن به أمام القضاء الأميركي. هذا من جهة الواقع القانوني الداخلي الأميركي .أما من جهة القانون الدولي، إن قانون ٤٥-١٠٤ ينتهك أكثر من ١٤ قانون دولي ويخالف ميثاق الأمم المتحدة. وهو بما تضمنه يؤكد أن القدس أرضا محتلة ويشرع بذلك الاحتلال خلافا للمواثيق الدولية.

يعرف ترامب أنه من المستحيل أن يحظى القرار الأميركي باجماع عليه في مجلس الأمن. ويعرف أيضا أنه حتى واقعيا؛ من المستحيل نقل السفارة من تل ابيب الى القدس قبل عقود من الزمن أو ربما أبعد أو مستحيل.

يعرف رجل البيت الأبيض أنه من الصعب حتى أن يحظى قراره بتأييد دول يتخطى عددها عدد أصابع اليد الواحدة؛ لتحذو حذوه بالاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل.

إن كان الرئيس الأميركي لا يدري كل ذلك ويتهاون بقدرة الفلسطينيين وبالمقاومين على الصمود والتحرير، ومدى قوة قضية فلسطين المركزية في أنفس وإرادة العرب والمشرقيين ومناصري الشعب الفلسطيني وحاملي قضية حق العودة والتحرير، فهو لا شك هابط علينا من كوكب آخر. ترامب اليوم لا يوزع جغرافياً العواصم الأرضية على الخلق؛ بل هو يلعب دور قائد حركة كواكب الكون، مَن يدري. ربما الرجل اكتشف كوناً آخر. إنها سلسلة تأثيرات الكواكب على الأبراج مع إقبال السنة الميلادية الجديدة. لِمَ لا!؟ لا شكّ أنّ الرجل لديه هاجس إفراط القوّة، أو هو يمتهن الحرب الباردة بامتياز عبر صنع سياسات وهمية. الحالتان واردتان. بالمرحلة القادمة وبعد سقوط اعلان القدس عاصمة لإسرائيل، سننتظر بفارغ الصبر حرب القمر والمريخ تمهيدا لإعلان المريخ عاصمة لكيان وهمي ما. عسى ألا نضطر للنأي بنفسنا عن قضايا كائنات فضائية.