منذ عودة رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ إلى بيروت، تحاول "​القوات اللبنانية​" بشتّى الوسائل والطرق أن تثبت للبنانيين أنّ علاقتها مع الرجل على أفضل ما يُرام، أو في أسوأ الأحوال، أنّها تمرّ بمجرّد "غيمة صيف" ناجمة عن "سوء تفاهم" لا أكثر ولا أقلّ، ستنتهي مفاعيله سريعًا من دون أن تترك أيّ أثرٍ على التحالف الاستراتيجي ما بين الجانبَين.

إلا أنّ هذه المحاولات لا تزال تصطدم بمؤشراتٍ مضادة من جانب "​تيار المستقبل​" لا تحتمل اللبس، ولا سيما من جانب رئيسه سعد الحريري، الذي لم ينزل كلامه عن "بحصة كبيرةٍ سيبقّها" وعن "أحزاب سياسية طعنته في الظهر" بردًا وسلامًا على "القوات"، التي اعتُبِرت "المقصودة الأساسيّة" منه، ولو ارتأت أن تطبّق مبدأ "النأي بالنفس" عنه.

ولعلّ ترافق ذلك مع عدم حصول اللقاء المنتظر بين الحريري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، في مقابل لقاءات الحريري مع كلّ قادة المحور الآخر، وآخرهم رئيس "تيار المردة" النائب ​سليمان فرنجية​، يعزّز "الفرضية" القائلة بأنّ "بحصة" الحريري المنتظَرة ستكون "المسمار الأخير" في "نعش" العلاقة بين "المستقبل" و"القوات"...

كلامٌ واضحٌ...

قالها الحريري بكلّ صراحةٍ ووضوحٍ، "هناك أحزاب سياسية حاولت أن تجد مكانًا لها في الأزمة من خلال الطعن بالظهر وأنا سأتعامل مع هذه الحالات كل على حدة"، مضيفاً: "جميعكم تعرفون من حاول طعننا في الظهر وحين كانوا يرددون مواقف تحدٍّ ل​حزب الله​ وسياسة ​إيران​ ظاهرياً وجدنا في النهاية أن كل ما أرادوه هو الطعن بسعد الحريري".

قد تكون المرّة الأولى التي يتحدّث فيها "الشيخ سعد" بهذا الشكل المباشر غير القابل للجدل أو للنقاش منذ عودته إلى لبنان، إثر الأزمة الشهيرة التي فجّرتها استقالته المريبة من ​السعودية​ وما تلاها من ملابساتٍ، وصولاً حتى تراجعه عنها من بيروت، خصوصًا أنّ الرجل كان دائمًا ينفي حدوث أزمةٍ أصلاً، ويتحدّث عن صدمةٍ إيجابيّةٍ ومرحلة تأمّلٍ وغيرها من الأمور، التي كان يتوخّى من خلالها تفادي الاحراج سواء لشخصه أو حتى للمملكة.

إلا أنّ كلامه المستجدّ، والذي ترافق في مفارقةٍ غير بريئةٍ ولا عفويةٍ مع توعّده بـ"بحصة كبيرة" أعلن أنّه سيقوم ببقّها قريبًا، يدلّ على تحوّلٍ نوعيّ في سياسة رئيس الحكومة، أو بالحدّ الأدنى، على وجود نيّةٍ لديه للبناء على ما حصل لقطع شعرة معاوية ربما مع "رفاقه القدامى" في "​14 آذار​"، باعتبار أنّ المرء لا يحتاج للكثير من التفكير لإدراك أنّ هؤلاء هم من كانوا يردّدون "عبارات التحدّي لحزب الله وسياسة إيران" خلال محنة الحريري.

وإذا كانت لائحة هؤلاء تشمل كثيرين، من الوزير السابق ​أشرف ريفي​، الذي يُقال أنّه لعب دورًا جوهريًا في "التحريض" على "استبدال" الحريري، ولو بشقيقه بهاء، إلى "​حزب الكتائب​" وكذلك النائب السابق ​فارس سعيد​، فإنّ الاعتقاد يميل إلى ترجيح أنّ الحريري قصد "القوات" قبل كلّ هؤلاء، خصوصًا أنّه تحدّث عن "طعنٍ بالظهر"، وهي صفةٌ قد لا تنطبق على ريفي و"الكتائب" وحتى سعيد بنفس القدر الذي تنطبق فيه على "القوات"، انطلاقاً من كون "الافتراق" مع هذه المجموعات سابقٌ للأزمة الأخيرة، في حين أنّ العلاقة مع "القوات" بقيت على متانتها، أو هكذا كان يبدو ظاهريًا، حتى اليوم الأخير.

ولا شكّ أنّ اللائحة تضمّ كذلك بعض الأفرقاء في داخل بيت الحريري "المستقبليّ" نفسه، الذين قد يكون طعنهم للحريري بالظهر أكثر فداحةً من أيّ طعنٍ آخر، إلا أنّ الحريري أفرد لهؤلاء حيّزاً خاصاً ومنفصلاً، وتوعّدهم بـ"الحساب" أيضًا، وهو ما لا يقلّل من حجم الرسالة لـ"القوات"، خصوصًا أنّ هؤلاء الأفرقاء لا يشكّلون بحدّ ذاتهم "أحزاباً سياسيّة"، في حين أنّ كلام الحريري واضحٌ.

"القوات" غير معنيّة!

لا شكّ أنّ ما قبل "بحصة" الحريري، إن بقّها، لن يكون كما بعدها. صحيح أنّ هذه المعادلة باتت مملّة لكثرة تكرارها، إلا أنّ الصحيح أيضًا أنّها تنطبق على هذه الحالة، خصوصًا أنّ كثيرين يعتقدون أنّ مثل هذه "البحصة" لن تترك مجالاً لأيّ عودةٍ للوراء، بل ستكون بمثابة إعلان "الطلاق" على أبواب الانتخابات النيابية، وستكرّس بذلك ما يتمّ التداول به عن تحالفٍ خماسيّ بدأ يتبلور ويجمع، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، كلاً من "تيار المستقبل" و"​التيار الوطني الحر​" و"حزب الله" و"​حركة أمل​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​".

لكن، رغم كلّ ذلك، لا تزال "القوات اللبنانية" تتصرّف وكأنّ شيئاً لم يكن، بل إنّ عددًا من قياديّيها يردّدون جهاراً أنّ "القوات" لا تعتبر نفسها مستهدَفة من كلام الحريري، في وقتٍ يتحدّث بعض العارفين بالكواليس السياسية عن اتصالاتٍ كانت ناشطة في الساعات الأخيرة ما قبل كلام الحريري لـ"ترطيب" الأجواء بينه وبين "الحكيم"، مع ترجيح أن تعود هذه الاتصالات خلال الساعات المقبلة لعلّها تنجح في الحدّ من اندفاعة الحريري وتقليص أضرار "البحصة" التي ينوي بقّها، أو بالحدّ الأدنى حصرها داخليًا.

وبالانتظار، تواصل "القوات" تحضيراتها للانتخابات النيابية، بمُعزَلٍ عن التحالفات، وهي ستعلن خلال الساعات المقبلة من معراب ترشيح الوزير الياس بو عاصي عن المقعد الماروني في دائرة بعبدا، بعدما أعلنت سابقاً عن ترشيح كلّ من فادي سعد في البترون، أنطوان حبشي في بعلبك الهرمل، ​زياد حواط​ في جبيل، وعجاج حداد في جزين. وإذا كانت الأوساط "القواتية" تحرص على وضع الإعلان الجديد في سياق الإعلانات السابقة، التزامًا بسياسة "قواتية" تقوم على إعلان ترشيحاتها بشكلٍ تدريجيّ، فإنّه لا يخفى على أحد حجم الرسائل "المبطّنة" التي يحملها هذا الإعلان في مثل هذا التوقيت، وهي رسائل "مزدوجة" توجَّه إلى "التيار الوطني الحر" و"تيار المستقبل" في آنٍ واحد.

ولعلّ الرسالة الأهمّ التي تسعى "القوات" لإيصالها لمن يعنيه الأمر أنّها ماضية في التحضير للانتخابات على طريقتها، بمُعزلٍ عن كلّ التحالفات التي ستبقى منفتحة عليها حتى اللحظة الأخيرة، لكنّها تريد القول أنّها ستخوض الاستحقاق، ولو بقيت وحيدةً في نهاية المطاف، بل إنّ هناك في داخل "القوات" من يتمنى أن تتحقق نظرية عزل "القوات" على اعتبار أنّها ستشكّل طبقاً دسمًا لدفع الرأي العام للتعاطف معها، وهو ما أثبتته كلّ التجارب. ويؤكد المسؤولون "القواتيون" لمن يلتقيهم أنّ طبيعة القانون الانتخابي الحالي القائم على النسبية مع الصوت التفضيلي لا تعطي التحالفات الأولوية، وإنّ بإمكانها خوض الاستحقاق بمفردها وتحقيق النتائج الإيجابية، علمًا أنّ الصوت التفضيلي لن يشكّل عقدةً لـ"القوات"، التي تقول إنّها تعرف كيف تقسّم هذه الأصوات بين محازبيها ومناصريها.

استدراج عروض؟!

خلال ساعاتٍ معدودة، تحوّلت "بحصة" الحريري إلى "الشغل الشاغل" لجميع اللبنانيين، "بحصة" رأى البعض أنّها ستغيّر الكثير من الوقائع، فيما رأى البعض الآخر أنّ مفعولها لن يكون كبيراً، باعتبار أنّ الخصوصية اللبنانية تبقى فوق كلّ اعتبار.

إلا أن هناك من بدأ يسأل، إذا كان الحريري ينوي فعلاً بقّ بحصةٍ من الحجم الكبير، فلماذا انتظر كلّ هذه الفترة، ولم يفعل ذلك في ذروة التعاطف معه؟ ولماذا أصلاً أعلن عن نواياه مسبقاً؟ وهل يكون ذلك بمثابة استدراج عروض قبل "لحظة الحسم"، غير المفصولة عن الانتخابات؟.