إنتهت مرحلة التشنّج السياسي التي سادت في مرحلة ما بعد استقالة الرئيس ​سعد الحريري​ وعودته عنها، وبدأ جميع الافرقاء السياسيون التموضع وفق التسوية الجديدة التي عاد الحريري بموجبها عن استقالته، في الوقت الذي أكدت المملكة العربية ​السعودية​ بلسان وزير خارجيتها ​عادل الجبير​ أنها «تنتظر لترى» في ضوء «وعد» قال إنّ رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ قطعَه للحريري لدى عودته الى ​بيروت​ لتقديم استقالته رسمياً، بأنّ «لبنان سيكون حيادياً في شأن ما يَحدث في ​العالم العربي​ وبأنه سيُعطى الهامش السياسي للعمل».

ويقول سياسيون معنيون بالتسوية «إنّ تيار «المستقبل» سيَسهر على تنفيذ هذه التسوية بما يريحه وحلفاءَه ويُرضي المملكة العربية السعودية، خصوصا انّها كانت قد اعتبرت انّ الافرقاء السياسيين خرجوا عن هذه التسوية في طبعتها التي كانت في مرحلة ما قبل استقالة الحريري. وفي المقابل فإنّ «حزب الله» سيَحرص من جهته على التزام التسوية بنحوٍ لا يزعج الحريري ولا يُحرجه إزاء ​الرياض​.

ويؤكد هؤلاء السياسيون أنّ ما حصل أدّى حتى الآن الى الحفاظ على الاستقرار وأحدثَ حيوية سياسية في الداخل، وأطلقَ صافرة الانتخابات النيابية، وكلُّ ذلك تحت سقفٍ دولي ـ اقليمي يعبّر عنه الجانبان الفرنسي والمصري بتفويض اميركي، ما مكّنَ الجميع من الحفاظ على الاستقرار وجعَلهم محكومين بمعادلة لا يمكن ان تختلّ إلّا في حال اقدمَ ايّ فريق على خرقِ سياسة «النأي بالنفس» بطبيعتها الجديدة. ولذلك يمكن القول انّ البلاد دخَلت في هدنة سياسية طويلة سيتخلّلها مناوشات حكومية ونيابية وتكتية ولكن تحت سقف الاستقرار».

وإذ يرى البعض انّ التسوية الجديدة جدّدت للتركيبة السياسية القائمة حتى الانتخابات المقبلة التي يتوقع ان يخوضَها الجميع بأوسع تحالف، فإنّ فريقاً آخر من السياسيين لا يُفرِط في التفاؤل، بل يحاذر التفاؤل، يرى انّ حدود التسوية بحلّتِها الجديدة، هي ان يَعبُر الجميع النهر من دون الوقوع فيه، ولكنّها تصبح تسوية جدّية في حال تحقّقت التسوية للأزمة السورية، وإلّا فإنّها تبقى مجرّد «ربط نزاع» لا تسوية عميقة.

ويؤكّد سياسيون في هذا الفريق انّ التسوية جعلت الحريري يصرّ اكثر على تحقيق التزام كبير ب​سياسة النأي بالنفس​ مقترباً اكثرَ مِن لغةٍ لم يكن متشجّعاً عليها سابقاً، ومستفيداً من حاجة رئيس الجمهورية و«حزب الله» اليه، وقد استفاد من ذلك ليعزّز موقعه وحضورَه السياسي وعلى كلّ المستويات، وبالتالي مَنَع التجرّوء على حصته، وعلى موقفه، إلّا انّ هذا قد لا يغيّر كثيراً في المعادلات القائمة.

ولذلك يُنتظر ان يستدير الجميع بدءاً من مطلعِ السنة الجديدة الى الانتخابات التي ستجري في موعدها حسب هذا السياسي، ولكن من دون إغفال الموقف الاميركي الجديد في ​مجلس الامن​ حول ​إيران​ و»تدخّلِها الصاروخي» الى جانب ​الحوثيين​ في اليمن، ومن زاوية الصاروخ الاخير الذي اطلقوه على مطار الرياض مطلعَ الشهر الماضي وأعلنَت المندوبة الاميركية في ​الامم المتحدة​ ​نيكي هايلي​ أمس انّه «من صنعٍ ​ايران​ي».

ويرى هذا السياسي «انّ هذا التصرّف الاميركي يذكّر بالطريقة التي اعتمدتها ​واشنطن​ عندما بدأت الإعداد لحربها على ​العراق​ ايام صدّام حسين، وهو ما يطرَح السؤال هل إنّ هذا الموقف الاميركي يهدف في النهاية الى احتواء الدور الايراني وتقويضه في المنطقة؟ ام أنه سيتّخذ أبعاداً اخرى تصل الى مستوى شنّ حربٍ أميركية ـ إسرائيلية او دولية على ايران؟».

الجواب على هذين السؤالين، يضيف السياسي نفسُه، سيتبلوَر خلال اسبوعين، وسيُعرف ما سيؤول اليه الموقف بين واشنطن و​طهران​، خصوصاً انّ ​الادارة الاميركية​ ومعها ​اسرائيل​ تعتبران «أنّ طهران تمسِك بالقرار السوري كاملاً، وكذلك بجزءٍ كبير من القرار اللبناني والقرار العراقي»، ولذلك فإنّهما «تهدفان في كلّ تحركاتهما الاقليمية والدولية الى تقليص النفوذ الايراني في المنطقة عموما».

ويَعتقد اكثر من مراقب انّ احتمال حصول مواجهة اميركية ـ اسرائيلية مع ايران يبقى قائماً، طالما إنّ واشنطن و​تل ابيب​ تنظران بقلق الى تعاظمِ النفوذ الايراني في المنطقة، وفي الوقت الذي تتّهمها ​دول الخليج​ العربي بالتدخّل في شؤونها خصوصاً، وشؤون ​الدول العربية​ عموماً، علماً انّ منسوب التوتّر والتصعيد مرتفع جداً هذه الايام بين الرياض وطهران على خلفية ​الحرب اليمنية​ وما يرافقها من تداعيات ومضاعفات على منطقة الخليج عموماً.

وفي الموازاة يقول سياسي متابع إنّ لبنان تجاوَز مرحلياً «قطوع» التعرّض لحرب إسرائيلية على جبهته الجنوبية صعوداً الى الجبهة السورية، لكنّ خطر وقوعِ هذه الحرب لم يزَل بعيداً طالما إنّ اسرائيل قلِقة من تفاقمِ قوّةِ «حزب الله»، خصوصا بعد التجارب القتالية التي خاضها ولا يزال في المنطقة.

مستبعداً إندلاع مِثل هذه الحرب خلال فصل الشتاء، ولكنّ ذلك قد لا يمنع من ان يكون الشتاء فرصة للاستعداد لهذه الحرب خلال الربيع او الصيف المقبلين.

ولكن ما يثير الاستغراب هو انّ اسرائيل تقرَع طبول الحرب ضد لبنان وتهدّد بإعادته الى «العصر الحجري» في الوقت الذي تُبدي ​الولايات المتحدة​ الاميركة ومعها كل العواصم الغربية والاقليمية تمسّكَها بالاستقرار اللبناني وحِرصها عليه، ولا تعلّق على هذا التهديد الذي إذا نُفِّذ يطيح هذا الاستقرار، وهو ما يَجعل لبنان في حذرٍ شديد دوماً.

غير أنّ الوضع الاقليمي المهدّد بالاشتعال، خصوصاً على الجبهة الاميركية ـ الايرانية، يبقى، في رأي متابعين وزوّار بعض العواصم الاوروبية، مرهوناً بمدى قدرة اوروبا العاقلة والحكيمة وثقلِها الكافي على تهدئة الجنون الاميركي ـ الاسرائيلي.

لكنّ بعض السياسيين يعتقدون انّ اوروبا قد لا تتمكّن من التهدئة، لأنّ الجو الاقليمي يزداد تشنّجاً على نحو يَشي بأنّه بات في حاجة الى تنفيسة في مكانٍ ما، تكون عبارةً عن اشتباك كبير، اميركي ـ ايراني، او غيره، يفضي الى مفاوضات لتحقيق التسويات الكبرى الموعودة.