أسبوع بعد أسبوع نتقدم في مسيرتنا نحوالميلاد.

وفِي أسبوع مولد يوحنا نتأمل في النقاط الآتية: الحرية التي جاء بها ​المسيح​ والسؤال "ما عسى هذا الطفل ان يكون؟

وأورشليم السماوية.

أولاً: "المسيح قد حررنا لنبقى احرار".

كانت العبادة قبل المسيح مجرد شرائع وفتاوى تنظم تفاصيل الحياة. لكل مخالفة عقاب محدد بحسب درجة المعصية تتراوح بين بضع جلدات إلى الرجم حتى الموت في الحالات التي تخص الاخلاقيات أو الايمان. قسم كبير من هذه الممارسات لا زال يمارس في اليهودية وعند بعض الديانات المتأثرة باليهودية والتي تعتبر سماوية. لاغرابة في أن هذه الممارسات مقبولة بل محبذة من الشعب. ربما لأنها تُريّح الإنسان من الشعور بالذنب؟.

أما نحن، بالمعاد بإسم المسيح، يقول لنا بولس الرسول، لم نعد عبيدا للخطيئة ولا تحت نير الشريعة والفتاوى. لقد صرنا ابناء الحرة التي وصفها بأورشليم العليا. بتعبير آخر هذا ما قاله يسوع لنيقوديموس عندما كلّمه عن الولادة الجديدة من فوق.

ولكن، ليس ماء المعمودية وحده، ولا الكهنوت ولا سر القربان ولا الصلاة والشعائر ولا اي سر من الأسرار السبعة المقدسة يؤهّلنا إلى الحياة مع الآب بمجرد أننا نلنا هذا السر أو ذاك وشاركنا بالقداس وتناولنا القربان. لا بل قد يكون في ذلك إساءة للقربان ودينونة لنفوسنا.(١ كو ١١، ٢٧). بقبولنا سر العماد وانتمائنا إلى كنيسة المسيح لا ننخرط بنادٍ اجتماعي ثقافي يخولنا أن ننال بعض الامتيازات أو الفوائد. لا يكفي أن نعلن مرة واحدة شهادة إيمان لنصبح أعضاء في حزب، أو ورثاء في الملكوت...

لا تؤهلنا الولادة من الماء والروح، بسحر ساحر، للقاء الآب. ماء العماد هو رمز للإشتراك بموت وقيامة المسيح، والتثبيت هو علامة حسيّة لقبول الروح القدس. ولكن لا يمكن أن يكون ماء سر العماد المقدس تأشيرة (visa) دخول أورشليم العليا.

إذا ما سمحنا لملكوت الله أن يقيم في داخلنا الآن، أي إذا لم نحفظ وصيته، هي وصية واحدة. إذا لم نترك فرصة للروح القدس ان يعمل فينا ومن خلالنا الآن، حيث نعيش ونعمل ونهتم بأمور شتى، إذا لم نساعد المحتاج لأننا نرى فيه المسيح، إذا لم نعط عطشان كأس ماء حبا بالمسيح، نجعل من ماء عمادنا عاقرا، ومن قلبنا سجناً للروح القدس.

لنجاهر بالمسيح لا بمسيحيتنا، لنفتخر بجهالة الصليب لا بثقافتنا. لا نكون أحراراً بالفعل إلا إذا متنا عن الإنسان القديم فينا، عندها نستطيع القول مع بولس "لست أنا الحيّ بل المسيح حي فيّ"(غل ٢، ٢٠).

ثانياً: "ما عساه ان يكون هذا الصبي"؟

يوحنا المعمدان كان "افضل من نبي" ينسب متى هذا القول إلى يسوع(متى ١١، ٩). ويضيف "ما ظهر في الناس أعظم من يوحنا المعمدان ولكن أصغر الذين في ملكوت السماوات أعظم منه".

لا شك في أن يوحنا المعمدان هو رمز عهد الشريعة والانبياء، ولأنه لم ير العهد الجديد، عهد التبني والملكوت الذي بدأ برسالة يسوع واكتمل على الصليب، هو الأصغر في الملكوت، وطبعاً ليكشف أهمية "الجديد" في العهد الجديد: الخلاص بموت وقيامة يسوع.

"نحن الآن ابناء الله. وما انكشف لنا بعد ماذا سنكون"(١ يو ٣، ٢). هل نشعر بقوة هذه البنوة؟ هل تظهر الطمأنينة على وجوهنا كأبناء لأقوى أب؟. لا اظن ان ذلك يأتي بفعل ساحر. بالمعاد نلنا التبني، تبني الله الآب. وبالتنشئة الروحية تنمو فينا حياة الله، و"يترحرح" في قلبنا الروح القدس، وتظهر على وجوهنا الطمأنينة والسلام، كمن يعرف أن الآب معه في كل حين وهو يرعاه.

أما إذا توقفت هذه التنشئة عند "الأول قربانة" قد يكون من المستحيل أن نتقدم في الحياة الروحية. فنحيا حياة مسيحية ناقصة. كما ان ابن الملك إذا لم يحظَ بتربية مناسبة ليعرف كيف يتصرف بين الامراء، إذا لم يتنشّأ على إدارة المملكة، يستحيل عليه أن يملأ مكانة ملك وأن يحسن تدبير مملكته.

في مسيرتنا نحو الملكوت، كما يقوم الطيار بالتحقق من check-list ليتأكد من كامل تجهيزات الطائرة قبل الإقلاع وبعد الهبوط، واجب على كل مؤمن يسعى إلى هدفه ان يفحص ضميره كل يوم ، للتأكد من وجهته. هل أورشليم السماوية هي هدفنا ووجهتنا في مسيرة الحياة؟.

ثالثاً: أورشليم العليا. وقد تكلم عنها يوحنا في الرؤيا عندما قال: "رأيت سماء جديدة وأرضا جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى زالتا، وما بقي للبحر وجود، وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، نازلة من السماء من عند الله كعروس تزيّنت للقاء عريسها. وسمعت صوتا عظيما من العرش يقول: "ها هو مسكن الله والناس"(رؤ ٢١، ١-٣).

بوصفه أورشليم السماوية، يقدم لنا كتاب الرؤيا صورة رمزية عن حياة الله الجديدة مع الشعوب. السماء الجديدة والأرض الجديدة حيث "يسكن الله مع الناس ويكونون له شعوبا. ألله نفسه يمسح كل دمعة تسيل من عيونهم. لا يبقى موت ولا حزن ولا صراخ ولا وجع، لأن الأشياء القديمة قد زالت"(رؤ ٢١، ٣-٤).

بإختصار، أورشليم العليا هي رمز لما نسميه السماء، الراحة الابدية، الجنّة، الحياة مع الله. ونُزول أورشليم من السماء هو الانتصار الاخير، نسميه ايضا قيامة الأموات. ومن هذا التعبير الاخير أتت عبارة "قامت القيامة" التي اتّخذت في مجتمعنا معنىً سلبيا يُستعمل للإشارة الى "فوضى كبيرة تثير الرهبة".

ولكن اليوم الاخير في الحقيقة هو اليوم المنتظر عند المسيحيين. لا معنى للحياة المسيحية دون هذا اليوم. ألا نردد في القداس الذي هو جوهر إيماننا: "نذكر موتك يا رب ونعترف بقيامتك وننتظر مجيئك"؟.

في زمن المجيء هذا الذي نعيش في الليتورجيا نتأمل في الميلاد وفي تواضع الكلمة المتجسد، ونرجو المجيء الثاني المنتصر الذي يبيد الحزن والوجع والموت، لنعيّد أكبر الأعياد الذي هُو عرس الحمل.

بانتظار اورشليم العليا، في الزمن الحالي ملكوت الله هو في قلوبنا في الإيمان والرجاء والمحبة.

"من لا يحب لا يعرف الله، لأن الله محبة"(١ يو ٤، ٨). "نحن نعرف محبة الله لنا ونؤمن بها"

ونؤمن أن "ألله محبة. من ثبت في المحبة ثبت في الله وثبت الله فيه"(١ يو ٤، ١٦)، "ورجاؤنا لا يخيب، لان الله سكب محبته في قلوبنا"(روم ٥، ٥)، "بهذا نعرف أننا من الحق فتطمئن قلوبنا امام الله"(١ يو ٣، ١٩).

آمين تعال أيها الرب يسوع.

* أيقونة يوحنا المعمدان من تأليف وكتابة رئيس المحترف المخلّصي للإيقونات الأب نداء ابراهيم.